الحلول الممكنة للحد من أسباب إطالة أمد التقـاضي



القاضي أحمد علي المالكي


من أعتى المشاكل التي تواجه الأنظمة القانونية الإجرائية إطالة أمد التقاضي، وتكاد تكون هذه المشكلة عالمية، فالناس كثيرًا ما يشكون بطء إجراءات التقاضي سواء في مصر أو في اليمن أو في غيرها على أنها في اليمن أكثر صعوبة.


إن ممارسة حق التقاضي أصبح صعب المنال، يضاف إلى ذلك أن المتقاضين يعانون من الإرهاق المالي والنفسي، بسبب طول الانتظار للفصـل في قضاياهم، الأمر الذي أصبح معه هذا الحق حكرًا على أصحاب الأموال، أما الضعفاء فيحجمون عن ممارسة هذا الحق، نظرًا لتداخل الأسباب، وتعدد العوامل المؤدية إلى ذلك، فلا يجوز أن نرمي بذلك العيب إلى الجهاز القضائي وحده ونغض الطرف عن بقية العوامل.


من أهمها تخلف القانون الإجرائي عن مواكبة كل فكر جديد يدعو إلى التبسيط في الإجراءات، أضف إلى ذلك زيادة الكثافة السكانية، وعدم زيادة المحاكم، بما يتناسب مع تلك الكثافة، وانعدام الدراسات الكافية التي تشخص المشكلة، وتختار أنسب الحلول؛ لتنقل هذه الحلول من ميدان التجريد إلى ميدان التجريب، وتجدر الإشارة أن مجلس القضاء الأعلى في المناطق المحررة قد حرص على معالجة بعض هذه الإشكالات في سبيل إزالة العوائق التي حالت دون سرعة البت في القضايا، ومن هذه الحلول والمعالجات إرفاد المحاكم والنيابات بعددٍ كبيرٍ من مخرجات المعهد العالي للقضاء، وتوظيف عددٍ من الإداريين في المحاكم والنيابات لمواجهة نقص الكادر الإداري.


وأما بقية العوائق المتمثلة بالكفاية العلمية لرجال القضاء، بالدورات التأهيلية والتنشيطية، وتعديل التشريعات الإجرائية لتبسيط إجراءات التقاضي، وإحلال نظم إجرائية تكفـل القضاء السريع، فلا شك أن الظروف السائدة في البلاد والوضع الاقتصادي قد ألقى بظلاله دون معالجة تلك المشكلات، وإذا كان حل هذه المسائل في ظل الوضع الراهن ليس بالأمر السهل فإن معالجة مشكلة إطالة أمد التقاضي بوسائل وأساليب وأدوات أخرى متاحة أمام القضاة يجب عليهم استنفادها بقدر الممكن وفقًا لقاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور) ونستعرضها بالآتي :
الغياب وما ينتج عنه من اختلال مواعيد الجلسات:
مشكلة كثرة الغياب من بعض القضاة لسبب أو بدون سبب، والأهم من ذلك أن القاضي في حال غيابه لا يُكلف أمين السر بإشعار الأطراف بسبب غيابه، وكذا إشعارهم بموعد الجلسات القادمة، ونادرًا ما يحتاط القاضي لهذه التوجيهات وإنما يترك الحبل على الغارب، ويترتب على ذلك اختلال مواعيد الجلسات وإرهاق الأطراف، لا سيما في القرى والإرياف البعيدة عن مركز المحكمة، والمعلوم أن عودة القاضي بعد غيابه وما نتج عنه من اختلال مواعيد الجلسات يجعله يعمد إلى إعادة إعلان الأطراف بمواعيد الجلسات المقررة لاحقًا، وهنا تظهر إشكالات وعوائق كثيرة لا يسع المقام لذكرها، ويكفي الإشارة إلى أن ذلك يؤدي إلى إطالة أمر التقاضي والإضرار بالعدالة، وهو ما يجب على القضاة عدم التغيب في مواعيد الجلسات إلا للضرورة القصوى، والضرورة تقدر بقدرها، مع لزوم أن يقوم أمين السر بما سلف الإشارة إليه.


تعطيل الجلسات بسبب تخلف المحامي عن حضور الجلسة:
بعض المحامين يكون لديه قضايا كُثر، فلا يستطيع المحامي حضور أكثر من جلسة في زمن واحد لا سيما إذا كان موكلوه يشترطون عليه أن يتولى قضاياهم بشخصه دون إنابة آخرين من مكتبه، لهذا السبب يلجأ المحامي إلى حضور الجلسات المربحة له بأكثر القيم، والتخلي عما عداها، ومن خلال ذلك تتعطل جلسات المحكمة بسبب غياب المحامي وانشغاله بقضايا أخرى، ويتكرر هذا المشهد من المحامي دون ردع أو زجر من القاضي بفرض غرامة التخلف عن حضور الجلسات سواء لخزينة الدولة أو تعويض للطرف الآخر المتضرر عملًا بالمادة (169) مُرافعات.


عدم التأكد من استيفاء شروط الدعوى بالمادة (104) مرافعات من قبل قلم الكتاب بالمحكمة وبإشراف رئيس المحكمة قبل نظر الدعوى:
يحصل أن يسير القاضي في نظر الدعوى بعدد من الجلسات ثم يظهر مؤخرًا للمحكمة وجود خلل في الدعوى، بل قد تسير الإجراءات في نظر القضية إلى حين حجز القضية للاطلاع أو للحكم، وبوقوف القاضي على محتويات ملف القضية وفحص الإجراءات، يظهر له عددًا من النواقص – فيضطر لإعادة فتح باب المرافعة لاستكمال الناقص، وهذا يُعدُّ سببًا من أسباب إطالة أمد التقاضي.


إهدار القاضي الجنائي لكل ما هو ثابت من الأدلة المرفوعة إليه من قبل النيابة العامة:
عدم قبول القاضي الجزائي للأدلة وتقارير الخبراء المعروضة على المحكمة في القضية الجنائية المرفوعة من النيابة العامة وبشكل مطلق وممنهج، لا يخدم العدالة، وهو من أسباب إطالة أمد التقاضي، لا سيما القضايا غير الجسيمة التي لا تستدعي إعادة إحضار الأدلة كاملة أمام المحكمة من جديد بدون سبب شرعي وقانوني، لذلك فليس من الصالح العام أن يقوم القاضي الجزائي بتجنيب إجراءات النيابة العامة وإغفالها، وتعطيل ما هو ثابت في تحقيقات النيابة التي تمت بإجراءات ذات طبيعة قضائية لها سند من قانون الإجراءات الجزائية وقانون السلطة القضائية.


ويجب التنويه أن ما يُثار من جدل في دلالة المادة (367) أ.ج في فقرتها الأخيرة التي تنص (إلا يبني القاضي حكمه على أي دليل لم يُطرح أمامه في الجلسة) ليس معناها إغفال ما هو مطروح أمام القاضي في الملف الجنائي المرفوع من النيابة في كل القضايا وكل الأحوال، فذلك الرأي يجعل من وجود النيابة العامة وجودًا عدميًا ويجعل من إجراءاتها المتخذة عبثية، وذلك أمر مخالف لقـصد المشرّع الجنائي، وإنما المقصود من دلالة المادة آنفة الذكر عدم جواز أن يستند القاضي على دليل لم يطرح أمامه وليس له أصل في الأوراق ولم يتحقق منه بنفسه في الجلسة طالما كان ذلك ممكنًا، أما إذا كان الدليل له أصل ثابت في الأوراق (ملف القضية المعروض على القاضي الجنائي) فلا مجال لتجاهل ما هو ثابت فيه وعدّ ذلك منهجًا في كل القضايا الجنائية دون تمييز بين الجسيم وغير الجسيم، وتطبيقًا لذلك فقد عمد بعض القضاة المنصفين في المحاكم الجزائية في القضايا البسيطة مثل السب والتهديد وما شابه ذلك، إلى مواجهة المتهم في ما هو مدون من أقوال الشهود وأقوال المتهم في محاضر تحقيقات النيابة وأدلة الإثبات والتحقق من صحة الإجراءات (والأصل فيها الصحة) ويبني حكمه عليها سلبًا أو إيجابًا، ومعلوم أن للقاضي الجزائي سلطة تقديرية واسعة في تقدير قيمة الدليل واستنباط الأدلة.


لكن ليس له أن يتجاوز إجراءات النيابة كلية، والأمر بالعودة في إجراءات أدلة الإثبات من الصفر، فذلك من شأنه تهميش سلطات النيابة والتضييق على المتقاضيين وعدم مراعاة مصالحهم وإطالة أمد التقاضي والإضرار بالعدالة الناجزة، إلا في حالة كانت بعض إجراءات النيابة في إثبات الدليل غير قانونيه، فمن حق القاضي الجزائي إهدار ذلك الإجراء وما بني عليه، وهو ما يجب التنويه له في هذا المقام، فعلى قضاة التحقيـق في النيابة العامة أن يعلموا أن إجراءات التحقيق والإحالة إلى المحاكم الجزائية يخضع لسلطة إشراف قضاة الحكم، وقد أوكل لهم المشرّع في قانون الإجراءات الجزائية الإشراف على إجراءات تصرّف النيابة من حيث المشروعية بوصف قضاة الحكم هم الضمان الأخير على قانونية إجراءات وتصرّف قضاة التحقيق في النيابة، فمن حق القاضي الجزائي التصدي وتحريك الدعوى الجزائية استثناء في المادة(32) والتوجيه بالتحقيق في وقائع أخرى أو متهمين آخرين أغفلهم التعاطي وقصور الإجراءات لدى النيابة أثناء نظر القضية لدى المحكمة، وهو ما يلزم على قضاة التحقيق في النيابة الحرص على سلامة وصحة إجراءات التحقيق وقواعد الإثبات وتوصيف الوقائع، وفق النصوص العقابية المنطبقة عليها، في قانون العقوبات العام أو القوانين العقابية الخاصة، منعًا وتحاشيًا من إهدار اجراءات النيابة أمام المحاكم والتسبب في إطالة أمد التقاضي والإضرار بالعدالة الناجزة.


عدم إلمام بعض القضاة ولو نسبيًا في القوانين الإجرائية والموضوعية الخاصة بالمهنة القضائية:
تجاهل القضاة بالاطلاع على قوانين المهنة يصعب عليهم توجيه إجراءات الدعوى توجيهًا سليمًا، فيستغل المحامون ذلك الضعف، فيصولوا ويجولوا بالاسترسال بالمرافعة، وتقديم الطلبات العارضة، والتدخلات والتعقيـب على التعقيب، وطلب التأجيلات المتكررة ولو كان السبب واحدًا، بما يتوافق مع مصلحتهم ولو على حساب النظام والقانون، فيطول أمد التقاضي بسبب عدم إحاطة القاضي بمفاصل القضية وضعف المعرفة الشرعية والقانونية أو نقص الخبرة العملية، ولمعالجة ذلك يجب أن يحرص القاضي و يتعاهد نفسه بالمعرفة الشرعية والقانونية، وبشكل مستمر.


– عدم الحزم والجزم وفرض الهيبة من قبل بعض القضاة في إدارة الجلسات:
بعض القضاة لا يفرقون بين إدارة جلسات القضايا وإدارة أعمالهم الإدارية والتنظيمية أو يمزجون بين النوعين، فيتلقون العرائض والطلبات، والأعمال الإدارية، ومعاملات أصحاب الشأن أثناء انعقاد الجلسات، فيسود الهرج والمرج، ويرتفع اللغط، ويتبدد الوقت وأخيرًا يُقرر التأجيل دون أن تستوفى أعمال الجلسات المقررة سلفًا، ويتكرر هذا المشهد في معظم الجلسات، وهذا عامل من عوامل إطالة أمد التقاضي، ومعالجة ذلك أن يتلافى القاضي تلك السلبيات، وفرض الهيبة، وعدم السماح مطلقًا بأي أعمال تخرج عن موضوع الجلسات.


– عدم تفعيل نص المادة (58 أ.ج) باعتبار المدعى بالحق المدني تاركا لدعواه في حال عدم حضوره أمام المحكمة الجزائية بغير عذر مقبول بعد إعلانه:
إذا قامت النيابة بإحضار المجني عليه ومن إليه في القضايا غير الجسيمة في موعد الجلسة الأولى، وتغيب عن الحضور في موعد الجلسة اللاحقة فلا يلزم إعلانه من قبل النيابة؛ لأنه يعلم يقينًا بموعد الجلسة، فهو المسئول عن نفسه، فإذا طال غيابه لأكثر من جلستين، فيجب على ممثل النيابة أن يطلب من المحكمة اعتبار المدعى بالحق المدني تاركاً لدعواه عملاً بذات المادة سالفة الذكر.
وعلى القاضي إصدار قرار بذلك، وهذا من شأنه تلافي مشكلة إطالة أمد التقاضي، والحد من تراكم القضايا وتكدسها لدى المحاكم، ولا يزال أمام المدعي بالحق المدني فرصة لرفع دعوى مدنية بحقه أمام القضاء المدني إذا رغب.


– التحكم في تخصيص عمومية وسيلة النشر في المادة 285 أ.ج :
تنص المادة سالفة الذكر في فقرتها الأخيرة بالآتي (إذا لم يحضر المتهم تؤجل الجلسة إلى جلسة مقبلة وتأمر المحكمة بالنشر عن المتهم بأي طريق من طرق النشر) والواقع المعيش هو إصرار المحكمة على تخصيص عموم المادة بالنشر عن المتهم بواسطة الصحف، في حال أن هناك طرق أيسر وأسهل من النشر في الصحف، مثل النشر عن المتهم بواسطة مواقع التواصل الاجتماعي (الفيس بوك) وغيره، أو النشر عنه في لوحة الإعلانات على واجهة المحكمة؛ لكونها أقل تكلفة وأكثر شيوعًا من الصحف طالما وأن النص في ذات المادة آنفة الذكر عام وغير مخصص بطريقة معينة، لكي يسهل على المحكمة اختيار الطريق الأيسر والأسهل، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما خيرت بين أمرين الا اخترت أيسرهما).


– إصرار المحاكم على أن تكون المرافعة وبالأخص الختامية كتابية:
ومعلوم أن الأصل في المرافعة وعلى وجه الخصوص المرافعة الختامية بالمادة …/ مرافعات، أنها شفهية إلا أن المحاكم توجه الأطراف بخلاف ذلك بالمرافعة الكتابية، وتسمح للمحامين بالاسترسال، وإعداد مذكرات مطولة يصعب الإلمام بمضمونها وتجميع أفكارها ونقلها إلى محصل الحكم، فضلًا عن أنها تستدعي مزيدًا من الوقت والجهد وذلك يعد سببًا من أسباب إطالة أمد التقاضي، يجب عدم الإسراف في استعماله.


– تأخر ممثل النيابة العامة عن حضور مواعيد الجلسات الجنائية:
غالبًا لا يحرص بعض أعضاء النيابة العامة المترافعون في القضايا الجنائية أمام المحاكم الحضور في بداية الدوام وتظل هيئة قضاء الحكم الجزائي والأطراف في حالة انتظار حتى يذهب جزء كبير من الوقت، ويكون ذلك على حساب جدول أعمال الجلسات، ويحصل أيضا في بعض النيابات تضارب وعدم وضوح في توزيع أيام الحضور بالترافع أمام المحكمة بين أعضاء النيابة، فيحدث الاتكال والتفريط، وربما كان الغياب هو سيد الموقف، فتؤجل الجلسة ويطول أمد التقاضي، وتلافي ذلك يكمن بوجود الإدارة الحازمة والإشراف المباشر على أعضاء النيابة المترافعين.


– عدم امتثال بعض النيابات للتوجيهات العليا من معالي النائب العام بإعداد صور وملفات مقابلة للقضايا الجنائية المرفوعة للمحكمة:
بعض النيابات لا تتقيد بالتوجيهات، بنسخ صور مقابلة للملفات المعروضة على المحكمة، بحيث يسهل على عضو النيابة المترافع الرجوع إلى نسخ الملفات المحفوظة في النيابة، للتزود بالمعلومات، والإعداد الذهني، والإحاطة بالقضايا التي يترافع فيها حتى يتمكن من أداء واجبه على أحسن وجه، ويساعد المحكمة على حسن توجيه الإجراءات لمصلحة العدالة، ولكن واقع الحال أن بعضًا منهم يذهب إلى الجلسات ولا يحمل بجعبته شيئًا من أساسيات القضايا التي يترافع فيها، ليس هذا فحسب بل إن بعضًا منهم لا يكرس جهده للاطلاع على القوانين المتعلقة بمهنته القضائية بوصفه مدعيًا عامًا قبل الجلسة بزمن كافي، فيعجز عن تلبية إجابة المحكمة واستفسارها، والرد الفوري على تهكم وسخرية المحامين من الادعاء العام، فيضطر لطلب التأجيل، ويترتب على ذلك إطالة أمد التقاضي، وتلافي ذلك القصور يكون باتباع ما سلف الإشارة إليه.


– ضرورة تعيين قضاة احتياطيين للشعب الاستئنافية:
الواقع يؤكد أن تعثر بعض الشعب عن الفصل في القضايا المنظورة لديها ناتجًا عن عدم اكتمال هيئة الشعبة، بسبب تغيب أحدهم، فيتأخر الفصل في القضايا، وتختل مواعيد الجلسات على النحو السالف ذكره في السطور السابقة، والتلافي في ذلك يتوجب على مجلس القضاء الموقر أن يرفد الشعب الاستئنافية بأعضاء احتياطيين لمواجهة مشكلة الغياب وتلافي إطالة أمد التقاضي.
والله ولي الهداية والتوفيق

*عضو المحكمة العليا

                                                                                    

اكتشاف المزيد من الصحيفة القضائية |

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

لا تعليق

اترك رد