القاضي الدكتور عبدالكريم محبوب
كثيرًا ما يردد العامة والخاصة مقولة(الاعتراف سيد الأدلة)، ومن رجال القضاء من يسلمون بهذه المقولة، ويبنون قراراتهم على الاعتراف بمجرد صدوره دون التحقق من صحة هذا الاعتراف من عدمه، بل إن هناك من قد استند للاعتراف في قراراته رغم مخالفة هذا الاعتراف للواقع مستندًا في ذلك لهذه المقولة، وهذا الأمر لا نقوله ارتجالًا، وإنما عايشناه واقعًا عندما كنا نعمل في الميدان، وهذا هو ما دفعنا لاختيار هذا الموضوع في أول كتابة نكتبها على صحيفة القضائية منذ صدورها من العاصمة عدن، وبهذه المناسبة نستهل مقالنا هذا بتوجيه الشكر لمعالي وزير العدل الذي لم يألُ جهدًا في إصدار هذه الصحيفة من العاصمة عدن وإخراجها بهذا الإخراج اللائق، وما ذلك إلا لحرصه على تحقيق التوعية للقضاة والمهتمين، وتنشيط معلوماتهم، مما سيعود حتما بالنفع على أعمالهم، وفي ذلك خدمة للعدالة، والشكر موصول للقائمين على الصحيفة على جهودهم المبذولة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هل فعلا الاعتراف سيد الأدلة كما يقال، أم أنه دليل كغيره من الأدلة الجنائية الأخرى خاضع لتقدير قاضي الموضوع؟
والاعتراف الجنائي يقصد به (إقرار المتهم بكل أو ببعض الوقائع المنسوبة إليه).
الحقيقة أن هذه المقولة ليس لها أي سند قانوني، وإذا تأملنا في نصوص القانون سنجد أن القانون الجنائي لا يركن إلى الاعتراف على أنه دليل قطعي، وإنما يعدَّه دليلًا ظنيًا.
والسبب في ذلك أن اعتراف المتهم قد يكون اعترافًا حقيقيًا صادرًا منه عن جرم ارتكبه فعلًا، وقد يكون اعترف بارتكابه مع أنه لم يرتكبه فعلًا، وإنما كان اعترافه لغرض في نفسه، كأن يخفي الفاعل الحقيقي مقابل المال، أو لأن الفاعل الحقيقي عزيز عليه، ويريد أن يتحمل العقوبة بدلًا عنه، وقد يكون الاعتراف نتيجة التعذيب الذي تعرض له المتهم، سواء كان هذا التعذيب ماديًا أو معنويًا، مما جعله يعترف ليتخلص من هذا التعذيب الذي لم يستطع أن يتحمله فلجأ إلى الاعتراف للتخلص منه رغم براءته من هذا الجرم.
ومما يجدر الإشارة إليه أن الاعتراف الجنائي يختلف عن الإقرار المدني بفروق عدة، الذي يهمنا منها هنا هو أن الاعتراف الجنائي يجوز الرجوع عنه في أي مرحلة من مراحل الدعوى، وبالتالي فهو لا يرتب آثار قانونية، وإنما القانون وحده هو الذي يرتب الآثار القانونية لهذا الاعتراف، فهو ليس حجة في ذاته على المعترف، وإنما يخضع لتقدير المحكمة، فقد تأخذ به وقد تطرحه، كما أنه لا يكتفى به، وإنما لا بد من الخوض في الأدلة الأخرى للوقوف على صحته من عدمه، ومن ثم فالاعتراف الجنائي يُعدُّ عملًا قانونيًا وليس تصرُّفًا قانونيًا كما هو الحال بالنسبة للإقرار المدني الذي يرتب آثارًا قانونية بمجرد صدوره من المقر، فالإقرار المدني هو الذي يمكن أن يطلق عليه أنه سيد الأدلة وليس الاعتراف الجنائي.
وسندنا في ذلك قانون الإجراءات الجزائية اليمني الذي عالج هذا الموضوع في أكثر من مادة، ونبدأ بالمادة (321) التي نصَّت في الفقرة الثانية منه على أن (تقدير الأدلة يكون وفقًا لاقتناع المحكمة في ضوء مبدأ تكامل الأدلة، فلا يتمتع دليل بقوة مسبقة في الإثبات). فهذه المادة قد أخضعت جميع الأدلة بما فيها الاعتراف لتقدير قاضي الموضوع، ولم تجعل للاعتراف حجة مطلقة، بل إنها وتأكيدًا لذلك نفت تمتع أي دليل بقوة مسبقة في الإثبات.
ولو نظرنا إلى المادة (323) من القانون نفسه سنجد أن المشرّع قد رتب الأدلة بحسب أهميتها، وجعل الاعتراف هو الدليل الثالث بعد شهادة الشهود وتقرير الخبراء، وهذا الترتيب لم يكن من المشرّع ارتجالًا وإنما كان يعي ما يفعل.
وإذا توجهنا بأبصارنا تلقاء المادة (352) من القانون ذاته سنجد أن هذه المادة قد أوجبت على القاضي أن يسأل المتهم عن التهمة المنسوبة إليه، فإذا أقرّ بارتكاب الجريمة المنسوبة إليه فإن القاضي لا يكتفي بهذا الإقرار وإنما عليه مناقشته تفصيلًا فإذا اطمئن إلى هذا الإقرار بأنه إقرارٌ صحيحٌ حكم بموجبه، ومعنى ذلك أن القاضي قد لا يطمئن إلى هذا الإقرار فلا يقضي بموجبه وإنما عليه أن يبحث في بقية الأدلة.
ولكي يطمئن القاضي للاعتراف الصادر عن المتهم فإنه لابد أن يتحقق في هذا الاعتراف شروط معينة، منها شروط بديهية بأن يكون هناك جرم ارتكب فعلًا، وأن يكون المتهم عند اعترافه بالغًا عاقلًا فلا يصح إقرار الصبي أو المجنون أو السكران، وأن يكون مختارًا بمعنى أنه صدر منه بمحض إرادته أما إذا كان صادرًا عن طريق الإكراه سواء المادي أو المعنوي فلا يصح الاستناد إليه ويجب على المحكمة إبعاده من الأدلة المستند إليها في الدعوى.
كما أنه من شروط الاعتراف أن يكون صريحًا واضحًا ومطابقًا للواقع، فلابد للعمل بالاعتراف أن يكون صريحًا لا لبس فيه ولا يحتمل أكثر من معنى، دالًا بذاته على الفعل المسند إلى المتهم، كما يتعين أن يفهم المتهم تمامًا ماهية التهمة المقررة عليه، وما سينتج عن اعترافه هذا، علاوة على ذلك فإنه يجب أن يكون الاعتراف مطابقًا للحقيقة والوقائع الثابتة في الدعوى.
ومن الشروط الواجب توافرها في الاعتراف أن يكون صادرًا عن إجراءات صحيحة ومشروعة، فيتعين أن يكون الوصول إلى الاعتراف بطرق مشروعة بحيث يكون الاعتراف مبنيًا على إجراءات صحيحة لكي يمكن الاستناد عليه في الإثبات أما إذا شاب البطلان أي إجراء من إجراءات التحقيق، وكان اعتراف المتهم وليد هذا الإجراء الباطل فإنه يطرح ولا يؤخذ به.
فلابد إذن للأخذ بالاعتراف توافر هذه الشروط مجتمعة فإذا اختل شرط من هذه الشروط فإن على القاضي أن يطرح هذا الاعتراف ولا يأخذ به وأن يستبعده من أدلة الدعوى.
من ذلك نخلص إلى أن الاعتراف الجنائي ليس سيد الأدلة وإنما هو دليل كغيره من أدلة الإثبات الجنائي، فهو من الأمور الموضوعية التي تخضع لتقدير قاضي الموضوع، فله أن يأخذ به إذا اطمئن إليه وله أن يطرحه.
عضو نيابة النقض والإقرار
عضو هيئة التدريس في المعهد العالي للقضاء
اكتشاف المزيد من الصحيفة القضائية |
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
لا تعليق