قضايا السب والقذف والتشهير عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية (2-2)


القاضي عزالدين بن أمين الأموي 

لقد تناولنا في الحلقة الأولى مناقشة مدى تحقيق الملاءمة بين حريات الرأي والتعبير والصحافة والحق في سمعة وكرامة الأشخاص ثم إقامة دعوى السب بواسطة الوسائل الإلكترونية موضحا الفرق بين السب والإهانة من حيث الركن المادي والمعنوي وتعرضنا للإهانة الواقعة على الشخصيات والهيئات العامة بما فيها السلطة القضائية سواء كشخص إعتباري أو معنوي، مع التطرق لبعض التطبيقات القضائية.

    وفي هذه الحلقة نستكمل الموضوع، فالمتصفح لصفحات مواقع  التواصل الاجتماعي سيلاحظ بسهولة مدى انتشار حالات لسوء استعمال هذه الوسائط الالكترونية، ويتجاوز البعض الحدود المسموح بها و ينغمسون في ارتكاب جرائم السب والقذف والتشهير في حق الغير، حيث شهدت الساحة اليمنية في الآونة الأخيرة ارتفاعا في جرائم السب والقذف عبر الانترنت أو الهاتف سواء  عن طريق المكالمات أو الرسائل أو مواقع التواصل الاجتماعي، من أجل البحث عن الشهرة وبهدف الحصول على أكبر عدد ممكن من المشاهدات فأصبح بعض الأشخاص لا يميزون بين المباح والمحظور  ولا يضعون حدود لكلامهم، فينهشون في كرامة غيرهم، فهذه الفضاءات ليست مجالا للفوضى ولا يحكمها قانون الغاب، كما أنها ليست فضاء للسخرية والمزاح الذي قد يتخذ شكل جرائم.

     فالتشهير مجرم قانوناً في العديد من النصوص القانونية المتفرقة، فقد جرم قانون الصحافة النافذ في الفقرة (5) من المادة (103) كل ما يؤدي إلى الإخلال بالآداب العامة وما يمس كرامة الأشخاص والحريات الشخصية بهدف الترويج والتشهير. و جرم المشرع استخدام أسلوب التجريح أو التشهير بالآخرين في الدعاية الانتخابية وذلك في المادة (38) من القانون رقم 13 لسنة 2001 بشأن الانتخابات العامة والاستفتاء والمادة (37) من لائحته التنفيذية رقم 11 لسنة 2002.كما جرم المشرع الاساءة، او التشهير، او التهديد للمشرح، أو للمنظمة النقابية، وذلك في المادة (56) من القانون رقم 35 لسنة 2002 بشأن تنظيم النقابات العمالية.

تجتمع جرائم التشهير سواء بالقذف والذم أو السب والقدح أو الإهانة في إنها تمثل اعتداء على شرف واعتبار المجني عليه ومساسا بمكانته في المجتمع وقد عدها المشرع اليمني في العديد من النصوص ولا سيما نصوص قانون الجرائم والعقوبات من الجرائم الماسة بالشرف والاعتبار، كما سنبين.

والمقصود بالجرائم الماسة بالشرف والاعتبار: كما عرفها أستاذنا الدكتور حسن علي مجلي بأنها:” الأقوال والكتابات العادية أو الإلكترونية التي تطال التكوين المعنوي لشخص المجني عليه فتمس شرفه وتؤثر في سمعته ومكانته في المجتمع، وتشمل هذه الطائفة من الجرائم الكتابات والرسوم ومافي حكمها”، والمقصود بالشرف والاعتبار من الناحية الموضوعية: المكانة التي يحتلها كل شخص في المجتمع، وما يتفرع عنها من حق في أن يعامل على النحو الذي يتفق وهذه المكانة، أي أن تعطى الثقة والاحترام الذي تقتضيه مكانته الاجتماعية. والمقصود بالشرف والاعتبار من الناحية الشخصية: شعور كل شخص بكرامته وإحساسه بأنه يستحق من أفراد المجتمع معاملة واحترام متفقين مع هذا الشعور.

قيام جريمة القذف عبر الوسائل الالكترونية:

لقيام جريمة القذف التي نص عليها قانون الجرائم والعقوبات في المادة (289) وقانون الصحافة والمطبوعات في المادة (103) والتي يمكن أن تقع بواسطة مواقع التواصل الاجتماعي او المواقع الإلكترونية الأخرى يتطلب الأمر  الأول التعبير عن الواقعة، والثاني إذاعة الواقعة (العلانية) وفي الغالب يرتكب الفعلين شخص واحد وإذا تعددوا بحيث يرتكب كل شخص فعل يعدان فاعلان للجريمة، ومن المهم أن نشير في هذا المقام أنه لا يكفي قانونا لقيام هذه الجريمة عبارات استفهامية او افتراضية او يسبغها في قالب مانع لذاته، أو للغير، أو كتابة رموز أو رسوم وصور، كون جريمة القذف من الجرائم الحدية، ومن ثم فإنه يمكن أن يعاقب الجاني بواقعة سب وليس قذف، وتقدير ذلك يرجع الى قاضي الموضوع الذي ينظر في ظروف كل واقعة على حدة.

موقف الفقه والقضاء اليمني من اشتراط العلانية من عدم ذلك في جريمة القذف كغيره من التشريعات العربية

هناك اتجاه فقهي وقضائي يرى بإن العلانية لازمة لقيام الجريمة – وهو ما نؤيده – واتجاه أخر  يرى أن اشتراط العلانية في القذف تزيد لا محل له في عناصر الجريمة، وبناء على ذلك فإن النشاط الاجرامى المكون للركن المادي لهذه الجريمة الذي يعود اليه فعل الاسناد لا يشترطه المشرع اليمني أن يكون علنياً في قانون الجرائم والعقوبات – مع اشتراطه في قانون الصحافة والمطبوعات ضمنياً في المادة (103) – بل يكفي كونه محظوراً أو مجرماً، بخلاف اغلب التشريعات التي تشترط صفة العلانية في القذف وفقاً لمفهومه القانوني وليس الشرعي. 

تميز القذف من السب الواقع بواسطة الوسائل الالكترونية

لقد أخذ القانون اليمني بمفهوم الشريعة الإسلامية لجريمة القذف بالتالي حدد المشرع على سبيل الحصر أن تكون الواقعة المسندة هي الرمي بالزنا أو نفي النسب وماعدا ذلك عده القانون سبا أو إهانة وليس قذفا، إلا أنه مع ذلك نجد اللائحة التنفيذية لقانون الصحافة والمطبوعات اليمني في الفقرة (ب) من المادة (148) قد خالفت ذلك المفهوم الشرعي للقذف عندما عدت إسناد واقعة بشكل علني لشخص من شأنها لو صحت لأوجبت عليه العقاب قذفا يستوجب التعزير، بينما عدت في الفقرة (أ) الواقعة المسندة للمجني عليه إذا كانت الرمي بالزنا أو نفي النسب قذفاً يستوجب الحد الشرعي.

سؤال: هل يتطلب توافر القصد الخاص في جريمة القذف؟

جريمة القذف بواسطة الوسائل الالكترونية المختلفة حسب المشرع اليمني تعتبر من الجرائم العمدية والتي تتطلب لقيامها توافر القصد الجنائي العام فقط حسب نص المادة (289) من قانون الجرائم والعقوبات، بينما قانون الصحافة اشترط إضافة توافر القصد الجنائي الخاص خلافا لأغلب القوانين العربية التي تشترط القصد الجنائي العام فقط.

بالتالي إذا علم الجاني بطبيعة فعله الإجرامي أو سلوكه المجرم قانوناً، المتمثل بتوجيه عبارات معينة تتضمن الرمي بالزنا أو بنفي النسب، سواء بإذاعتها أو نشرها في أي من مواقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، واتساب والى غيرها من المواقع الاجتماعية او الالكترونية، واتجهت إرادته الى تحقيق هذا السلوك ونتيجته الاجرامية، فإن القصد الجنائي العام متوفرا.

كما يتوفر القصد الجنائي الخاص بإن تتجه نية الجاني تشويه سمعة الشخص المقذوف حسب نص الفقرة (10) من المادة 103 من قانون الصحافة ويعد متوافرا متى نشر القاذف أو أذاع الخبر المتضمن عبارات أو ألفاظ الرمي بالزنا أو بنفي النسب على منصات السوشيال ميديا او المواقع الالكترونية الأخرى.

الاثبات الالكتروني لجريمة السب والقذف

سؤال: من المعلوم أن الدليل الالكتروني قد يرفق في الشكوى أو الدعوى كصورة للقطة شاشة او نسخ المقطع، وينبغي أن يتم مقارنة هذه الصورة او المقطع مع ما هو مدون ومنشور في ذلك المواقع وتحرير محضر معاينة، للأخذ به كدليل ثابت، لكن ماذا إن تم حذف المنشور او المقطع من الموقع هل تقام الجريمة خصوصا في ظل إنكار المتهم للمنشور او المقطع؟.

نعم تقام الجريمة إذا تم إثباتها بأي طريق من طرق الاثبات، فالإثبات في المواد الجنائية هو كل ما يؤدي إلى إظهار الحقيقة، فلكي يتم الحكم على المتهم في المسائل الجنائية يجب ثبوت وقوع الجريمة في ذاتها وهنا يتم التأكد من السب او القذف المنشور ، وان المتهم هو المرتكب لها، وبالرجوع الى المادة 321 من قانون الإجراءات الجزائية والتي نصت على أن “…2- تقدير الأدلة يكون وفقا لاقتناع المحكمة في ضوء مبدأ تكامل الأدلة فلا يتمتع دليل بقوة مسبقة في الإثبات” ونصت المادة 322 على أنه ” لا يجوز إثبات أي واقعة ترتب مسؤولية جزائية على أي شخص إلا عن طريق الأدلة الجائزة قانونا و بالإجراءات المقررة قانونا”، وبالنظر الى المادة 323 من نفس القانون، نجد أنه جاء في صدر المادة ” تعد من أدلة الإثبات…”وجاء في نهايتها عبارة ” أو وقائع الجريمة والقرائن والأدلة الأخرى” مما يتبين لنا أن المشرع اليمني لم يحصر أدلة الإثبات الجنائي بل ذكرها على سبيل المثال.

وتنص المادة 367 من نفس القانون على أنه ” يحكم القاضي في الدعوى بمقتضى العقيدة التي تكونت لدية بكامل حريته من خلال المحاكمة “.إذا ومن خلال نصوص المواد المذكورة يتضح جليا بأن المشرع اليمني لم يحصر أدلة الإثبات بأدلة معينة بل ترك حرية الإثبات للخصوم في الدعوى وكذلك للقاضي كمبدأ عام في الاثبات، وعمد الى تحديد بعض طرق الإثبات في جرائم معينة فقط دون البعض الأخر وتبعا لذلك يمكن اثبات جرائم السب والقذف بجميع وسائل الاثبات المتاحة والتي يأتي على رأسها محضر المعاينة الذي يعد أكثر فعالية في الإثبات عندما تكون جرائم السب والقذف قد ارتكبت عبر مواقع التواصل الاجتماعي او المواقع الالكترونية الأخرى، ولذلك بمجرد بلوغ العلم الى المجني عليه او للنيابة العامة بوجود أفعال قد تشكل جرائم السب او القذف أن يتم إجراء معاينة على الصفحة أو الموقع الذي تضمن عبارات السب أو القذف، وهذه المعاينة قد تتم من طرف مأموري الضبط القضائي أيضا، وانجاز محضر معاينة بكل ما تمت معاينته سواء من حيث اسم الصفحة او الموقع والرابط لها وكل المعلومات التي من شأنها أن تفيد في القضية ثم ترفق بمحضر المعاينة نسخة من المقال أو الفيديو المتضمن للسب او القذف، واذا  استدعت الضرورة التحقق من صحة الدليل الرقمي أو كانت الصفحات والمواقع مجهولة يتم اللجوء الى الخبرة التقنية بموجب قرار  قضائي  للتوصل لهوية أصحابها، ويمكن اثبات السب والقذف بسائر الوسائل وعلى رأسها الاعتراف وشهادة الشهود والقرائن إلى اخره من طرق الاثبات. فجميعها تخضع للسلطة التقديرية للقاضي لان الاحكام يجب أن تبنى على الجزم واليقين لا على الشك والتخمين، وقد جعل المشرع اليمني للقاضي دورا في تقدير الأدلة وفي التحرك الذاتي والاقتناع الموصل إلى الحكم العادل والحسم السريع، مما يمكن معه القول أن القانون اليمني تبنى نظام الإثبات المختلط، كما أن في عمومية نصوص  الإثبات الجنائي الواردة أعلاه تستوعب الإثبات بالأدلة الرقمية، شريطة أن يتم استخلاصها بطرق مشروعة، والتي تنتهي بقناعة القاضي بها، وما يعزز توجه المشرع اليمني للأخذ بالأدلة الرقمية ما أخذ به قانون أنظمة الدفع حيث تنص المادة 41 على أنه “يعاقب كل من يرتكب فعلاً يشكل جريمةً بموجب أحكام القوانين النافذة بواسطة استخدام الوسائل الإلكترونية…”.

إذا موقف المشرع اليمني كما يتبين من خلال النصوص المذكورة أعلاه نجدها تكرس قاعدتين تكمل إحداهما الأخرى، قاعدة الإقتناع الحر للقاضي الجنائي من جهة وقاعدة حرية إختيار وسائل الإثبات الجنائي من جهة أخرى، فالقاضي إذا يستطيع أن يستمد من أي دليل يرتاح له وجدانه، وهذه الحرية مقررة بالنظر الى ظروف وملابسات القضية.

سقوط الدعوى الجنائية وتقادمها في جريمة السب الالكتروني

دعوى السب والإهانة لا تقبل في هذه الأحوال

لقد بين المشرع اليمني في المادة (293) من قانون الجرائم والعقوبات أنه لا تقبل دعوى السب في الأحوال الآتية 1- إذا كان نقداً عملياً لعمل أدبي أو فني مطروح للجمهور، 2- إذا كان صادرا ًمن شخص له سلطة الرقابة أو التوجيه في نطاق هذه السلطة و بالقدر الذي يكشف عن خطأ من وجه إليه السب في تصرفه وتوجيهه الوجهة الصحيحة، 3- إذا كان القصد منه إبداء الرأي في مسلك موظف عام بشأن واقعة تتعلق بعمله الوظيفي وبالقدر الذي يفيد في كشف انحرافه، 4- إذا كان في شكوى مقدمة لمختص تتعلق بمسلك شخص أثناء أدائه عملا كلف به ويشترط أن تقتصر العبارات على وقائع تتعلق بالعمل الذي قدمت بشأنه الشكوى، 5- إذا كان قد صدر بحسن نية من شخص بقصد حماية مصلحة له أو لغيرة يقرها القانون بشرط التزام القدر اللازم لهذه الحماية، 6- إذا نشرت الأقوال أو العبارات لمجرد سرد أو تلخيص لما دار في اجتماع عقد وفقاً للقانون من محكمة أو مجلس أو هيئة أو لجنة لها اختصاص يعترف به القانون ما لم يكن قد صدر قرار بحظر النشر، 7- إذا صدرت الأقوال أو العبارات أثناء إجراءات قضائية من شخص أشترك فيها بصفة قانونية كقاض أو محام أو شاهد أو طرف في الدعوى.

ختاما نشير الى  تقادم جرائم القذف والسب الالكتروني   والتي تعتبر من ضمن جرائم الشكوى، بالتالي لا يجوز للنيابة العامة رفع الدعوى الجزائية أمام المحكمة إلا بناء على شكوى المجني عليه أو من يقوم مقامة قانونا، ولا يجوز اتخاذ إجراءات التحقيق في هاتين الجريمتين إلا بعد تقديم هذه الشكوى، كما يجوز لمن له الحق في الشكوى أن يتنازل عنها في أي وقت، تطبيقا للمواد (27،30،31) من قانون الإجراءات الجزائية رقم (13) لسنة 1994م. وينقضي الحق في الشكوى المتعلقة بالقذف والسب والاهانة كما نصت المادة (27) من ذات القانون، بعد مضي أربعة أشهر من يوم علم المجني عليه بالجريمة أو بارتكابها أو زوال العذر القهري الذي حال دون تقديم الشكوى و يسقط الحق في الشكوى بموت المجني عليه…

انتهى ونسأل من الله التوفيق والسداد وتحقيق المراد للجميع. 

*باحث متخصص بالقانون الرقمي والأمن السيبراني


اكتشاف المزيد من الصحيفة القضائية |

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

لا تعليق

اترك رد