القيمة القانونية والقضائية للأدلة الرقمية طبقا للقانون اليمني


القاضي عزالدين بن أمين الأموي

نُظم الإثبات

تختلف طريقة الاعتراف بالدليل الرقمي وقبوله كدليل إثبات من دولة إلى أخرى بحسب طبيعة نظام الإثبات السائد فيها، والذي لا يمكن أن يخرج عن الأنظمة التالية: أولا نظام الإثبات الحر، ووفقا لهذا النظام يتمتع القاضي الجنائي بحرية مطلقة في شأن إثبات الوقائع المعروضة عليه، فلا يلزمه القانون بأدلة للاستناد إليها في تكوين قناعته، فله أن يبني هذه القناعة على أي دليل وإن لم يكن منصوصا عليه، وكل الأدلة تتساوى قيمتها في الإثبات في نظر المشرع، والقاضي هو الذي يختار من بين ما يطرح عليه ما يراه صالحا للوصول إلى الحقيقة، وهو في ذلك يتمتع بمطلق الحرية لقبول الدليل أو رفضه إذا لم يقتنع به.

 ثانيا نظام الأدلة القانونية أو المقيد:  في ظل هذا النظام لا يكون الدليل الرقمي مقبولا أمام القاضي الجنائي ما لم يتم النص عليه من قبل المشرع، حيث يتوجب عليه تحديد هذا النوع من الأدلة سلفا وبدقة، والقاضي الجنائي يتوجب عليه الأخذ بهذه الأدلة متى توافرت فيها شروط الدليل الصحيح، لذلك ففي حالة توافر شروط الدليل الصحيح يلزم القاضي الجنائي أن يؤسس حكمه على أساس هذا الدليل حتى وإن لم يكن مقتنعا به، كما أنه إذا لم تتوافر الشروط المطلوبة قانونا يكون القاضي ملزما ببناء اقتناعه وتأسيس حكمه على أساس عدم قيام الدليل على الادعاء، حتى لو كان القاضي مقتنعا بثبوت الادعاء.

ثالثا نظام الإثبات المختلط: تقوم فكرة هذا النظام أنه يأخذ بملامح كل من نظام أدلة الإثبات الحر ونظام الأدلة القانونية وحاول التوفيق بينهما، فلكي يتسنى للقاضي إصدار حكمه ينبغي عليه أن يكون مقتنعًا إقتناعًا شخصيًا، وفي نفس الوقت يجوز القناعة القانونية كما أقرها القانون، ويقوم هذا النظام بالجمع بين النظامين، وذلك عن طريق تحديد القانون لأدلة معينة للإثبات في بعض الجرائم دون البعض الأخر أو يشترط في الدليل شروطا في بعض الأحوال أو يعطي القاضي الحرية في تقدير القيمة الإثباتية للأدلة القانونية.

موقف القانون اليمني

يمكن للقاضي الجنائي – بخلاف القاضي المدني – أن يلعب دورا  إيجابيا في استثمار مبدأ الإثبات الحر، ولاسيما إذا اتخذ المبادرة في البحث عن الوسائل الناجعة التي تؤدي به إلى إظهار الحقيقة، ففي ظل القانون اليمني لا وجود لأدلة يحظر المشرع مقدما على القاضي الجنائي قبولها، وكل دليل يمكن أن يتولد معه اقتناعه، يكون من حيث المبدأ مقبولا أمامه، فحرية الإثبات في الميدان الجنائي تبقى ضرورية ومنطقية في آن واحد، إذ أن الأصل العام هو أن الجرائم على اختلاف أنواعها يجوز إثباتها بكافة الطرق القانونية، ما عدا ما استثني منها بنص خاص في القانون.

و برجوعنا للتشريع اليمني نجد أن المادة 321 من قانون الإجراءات الجزائية النافذ نصت على أن “…2- تقدير الأدلة يكون وفقا لاقتناع المحكمة في ضوء مبدأ تكامل الأدلة فلا يتمتع دليل بقوة مسبقة في الإثبات” ونصت المادة 322 على أنه ” لا يجوز إثبات أي واقعة ترتب مسؤولية جزائية على أي شخص إلا عن طريق الأدلة الجائزة قانونا و بالإجراءات المقررة قانونا”، وبالنظر الى المادة 323 من نفس القانون، نجد أنه جاء في صدر المادة ” تعد من أدلة الإثبات…”وجاء في نهايتها عبارة ” أو وقائع الجريمة والقرائن والأدلة الأخرى” ممايتبين لنا أن المشرع اليمني لم يحصر أدلة الإثبات الجنائي بل ذكرها على سبيل المثال، وتنص المادة 367 من نفس القانون على أنه ” يحكم القاضي في الدعوى بمقتضى العقيدة التي تكونت لدية بكامل حريته من خلال المحاكمة “.

إذا ومن خلال نصوص المواد المذكورة يتضح جليا بأن المشرع اليمني لم يحصر أدلة الإثبات بأدلة معينة بل ترك حرية الإثبات للخصوم في الدعوى وكذلك للقاضي كمبدأ عام في الاثبات، وعمد الى تحديد بعض طرق الإثبات في جرائم معينة فقط دون البعض الآخر ويتعلق الأمر بجرائم الحدود والقصاص.

 لقد جعل المشرع للقاضي دورا في تقدير الأدلة وفي التحرك الذاتي والاقتناع الموصل الى الحكم العادل والحسم السريع، مما يمكن معه القول أن القانون اليمني تبنى نظام الإثبات المختلط ، كما أن في عمومية نصوص  الإثبات الجنائي الواردة أعلاه تستوعب الإثبات بالأدلة الرقمية، شريطة أن يتم استخلاصها بطرق مشروعة، والتي تنتهي بقناعة القاضي بها، ومايعزز توجه المشرع اليمني للأخذ بالأدلة الرقمية ما أخذ به قانون أنظمة الدفع والعمليات المالية والمصرفية الإلكترونية رقم 40 لسنة 2006، حيث تنص المادة 41 على أنه “يعاقب كل من يرتكب فعلاً يشكل جريمةً بموجب أحكام القوانين النافذة بواسطة استخدام الوسائل الإلكترونية…”

وهكذا فإن الإثبات الجنائي في اليمن يسيطر عليه مبدأ حرية الإثبات في المواد الجنائية – مع الإشارة الى تحديده لبعض طرق الإثبات في جرائم معينة – ولافرق بين دليل نجم عن إجراء علمي أم غيره، والقاضي يستطيع أن يستمد من أي دليل يرتاح له وجدانه، وهذه الحرية مقررة بالنظر الى ظروف وملابسات القضية.

و بتحليل موقف المشرع اليمني من خلال النصوص المذكورة أعلاه نجدها تكرس قاعدتين تكمل إحداهما الأخرى، قاعدة الاقتناع الحر للقاضي الجنائي من جهة وقاعدة حرية إختيار وسائل الإثبات الجنائي من جهة أخرى.

ونشير الى أنه تظهر أهمية الإثبات الجنائي في الدور الإيجابي الممنوح للقاضي في البحث عن الحقيقة، فالقاضي الجنائي لا يكتفي بمجرد موازنة الأدلة التي يقدمها الخصوم والترجيح بينهما، إنما دور إيجابي يفرض عليه التحري والبحث عن الحقيقة والكشف عنها، كما أنه تكمن أهميته أنه يتطلب في الحصول على الدليل إتباع القواعد التي تحدد كيفية الحصول عليه، والشروط التي يتعين عليه تطبيقها فيه والتي توفر الثقة في الدليل الذي يقدمه، ومخالفة هذه القواعد والشروط قد يهدر الدليل ويشوب الحكم بالبطلان.

اذا يملك القاضي سلطة تقديرية واسعة، فإذا ماطرحت عليه مجموعة من الأدلة يوازي بينها مفضلا بعضها على البعض الآخر ويأخذ من بينها ما تطمئن إليه، ويطرح ما سواه مما لم يطمئن إليه، وما يمكن ان نخلص اليه في الأخير ان الأدلة الرقمية بمختلف نظم الإثبات لها الحجية والقيمة القانونية، حيث  قبلت  الأنظمة الثلاثة  الأدلة الرقمية كأدلة إثبات، إلا أنها في نظام الأدلة القانونية يتطلب شروطا عديدة لقبولها.

تقدير القضاء للدليل العلمي 

تعد مرحلة المحاكمة من أهم إجراءات الدعوى باعتبارها مرحلة حاسمة، إذ تعتبر عملية تقدير الأدلة جوهر الحكم، وليس باستطاعة القاضي إدراكه والوصول إليه إلا بعد ممارسته لسلطته التقديرية للأدلة محل الوقائع، فيتوقف سلامة الحكم على سلامة تقدير الأدلة، ويعتبر الدليل الرقمي كباقي الأدلة يتم تقديره من طرف القاضي الجنائي، وبالتالي إقناعه، وفي هذا الخصوص ينبغي أن نميز بين أمرين:

أ-  القيمة العلمية القاطعة للدليل.

ب- الظروف والملابسات التي وجد فيها الدليل

فتقدير القاضي لا يتناول الأمر الأول، وذلك لأن قيمة الدليل تقوم على أسس علمية دقيقة، وبالتالي لا حرية للقاضي في مناقشة الحقائق العلمية الثابتة، أما الأمر الثاني والمتعلق بالظروف والملابسات التي وجد فيها الدليل، فإنها تتدخل في نطاق تقديره الذاتي، فهذا من طبيعة صميم وظيفته القضائية، بحيث يكون في مقدوره أن يطرح مثل هذا الدليل – رغم قطعيته من الناحية العملية – إذا تبين بأنه لا يتفق مع ظروف الواقعة وملابساتها، حيث تولد الشبهة لدى القاضي، ومن ثم يقضي في إطار تفسير الشك لصالح المتهم.

ذلك أن مجرد توافر الدليل العلمي لا يعني أن القاضي ملزم بالحكم بموجبه مباشرة سواء بالإدانة أم بالبراءة، دون بحث ظروف وملابسات بنائه، فالدليل العلمي ليس آلية معدة لتقرير اقتناع القاضي بخصوص مسألة غير مؤكدة، بل هو دليل إثبات قائم على أساس من العلم والمعرفة، وللقاضي النظر إليه في ضوء الظروف والملابسات المحيطة، فالعبرة في الميدان الجنائي هي باقتناع القاضي بادلة الإثبات المعروضة عليه، كما ان استخلاص ثبوت الجريمة أو عدم ثبوتها من وقائع القضية والظروف المحيطة بها أمر موكول للسلطة التقديرية لمحكمة الموضوع، فالقضاء بإختصار يملك السلطة التقديرية بالنسبة للظروف والملابسات التي أحاطت بالدليل الرقمي من الناحية العملية لا العلمية.

انتهى … والله ولي الهداية والتوفيق.

*باحث في القانون الرقمي والأمن السيبراني


اكتشاف المزيد من الصحيفة القضائية |

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

لا تعليق

اترك رد