القاضي سمية الردفاني
الضبط الإداري: هو نشاط تمارسه السلطات العامة بقصد تحقيق النظام العام وحماية المرافق والأموال العامة وهو غاية تسعى سلطات الدولة لتحقيقها.
وظيفة الضبط الإداري وظيفة قديمة قِدم الدولة، لفرض النظام وتحقيق الاستقرار في المجتمع، وبدونها يتعرض السلم والأمن الاجتماعي للخطر وتسود الفوضى والاضطرابات، وازدادت أهمية هذه الوظيفة بزيادة تدخل الدولة في شتى مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، ومع انتشار الفكر والنظام الديمقراطي في القرن العشرين وانحسار النظم الدكتاتورية، أصبح تقدم الدول يقاس بمدى احترامها لحقوق الإنسان وحرياته ومدى توفير الدولة الضمانات القانونية.
ولذلك نصت العديد من الدول في دساتيرها على الاعتراف بحقوق الإنسان والحريات العامة، وتعد ممارسة الضبط الإداري مظهرًا من مظاهر السلطة العامة في فرض النظام العام بواسطة مجموعة من الامتيازات والسلطات التي تمارسها هيئات الضبط الإداري بهدف الحفاظ على النظام العام وتكمن خطورة النشاط الضبطي في كونه يمس حقوق وحريات الأفراد بتقييدها عن طريق الأوامر والنواهي وما يتضمنه من عقوبات تفرض على المخالفين لأحكامه، وإن كان الضبط الإداري من شأنه أن يفرض قيود على الحريات فإن ذلك لا يعني ترك هذه الحريات تحت رحمة سلطات الضبط الإداري.
فعملية التوازن هي المؤشر الحقيقي لمدى ديمقراطية الدولة واستيعابها للقواعد الديمقراطية والأخذ بها، لذلك أصبح من الضرورة وضع حدود لاختصاصات الإدارة في ممارستها لسلطات الضبط الإداري.
من المسلمات أنه لا يجوز المساس بالحرية دون نص تشريعي كوسيلة لحماية النظام العام والضرورة تقدر بقدرها والاستثناء يجب أن يفسر تفسيرًا ضيقًا.
تزايدت مهمة الضبط الإداري في الآونة الأخيرة وباتت مهمتها في تنظيم الحريات أمرًا حتميًا وضروريًا حتى لا تتحول ممارسة الحريات العامة وأوجه النشاط الخاص إلى فوضى؛ لأنه إذا كانت السلطة المطلقة مفسدة مطلقة فإنَّ الحرية المطلقة هي بدورها مفسدة وبالتالي يتعين تحقيق التوازن التام بينهما حتى يتحقق للدولة الاستقرار الملائم لتحقيق غاياتها.
نظرًا لأنَّ أعمال الضبط الإداري تتعلق مباشرة بحقوق وحريات الأفراد لذلك لا يمكن أن تكون مطلقة، بل يجب أن تكون مقيدة بحيث تحقق التوازن بين المحافظة على النظام العام والحريات العامة للأفراد وهذا التقييد يكون بموجب القوانين وفقا لمبدأ المشروعية، والسلطات التي تتمتع بها هيئات الضبط الإداري تختلف باختلاف المكان والزمان وأنَّ السلطات التي يتمتع بها الضبط الإداري في الظروف الاعتيادية تختلف عن السلطات التي يتمتع بها في الظروف الاستثنائية وفي كلتا الحالتين يجب أن يتقيد بمبدأ المشروعية، ولذلك وإن كان للأفراد في المجتمع حقوق وحريات يكفلها القانون فإنه لا بُدَّ لهذه الحريات من قيود ويقع على عاتق السلطة التنفيذية واجب تمكين الأفراد من ممارسة حياتهم دون إحداث اضطراب.
إذا كانت السلطات الواسعة الممنوحة لسلطات الضبط الإداري بصفتها المكلفة بضبط النظام العام وتحقيق أغراضه التقليدية والحديثة موضوعة في الأصل من أجل ضمان تمتع كافة المواطنين في الدولة بحقوقهم وحرياتهم، فإنها لا يجب أن تحول بأي شكل من الأشكال بين الفرد وبين ممارسته لهذه الحقوق والحريات التي للإنسان منذ زمن ليس ببعيد خاصة وأن التصادم بين فكرتي الحقوق والحريات من جهة وبين تدابير الضبط الإداري التي تتخذها الإدارة من جهة أخرى هي حتمية لا مفر منها.
إن الحد من هذا الصراع بين الإدارة والأفراد كان ولا زال الشغل الشاغل لأهل القانون باعتبار أنَّ وجود قانون يخضع له الكافة وينظم جميع أوجه النشاط للحكام والمحكومين هو ما يميز المجتمعات الحديثة عن المجتمعات البدائية، لذلك فقد سعى هؤلاء بكل الوسائل المتاحة من أجل تحقيق التوازن بينهما بوضع حدود لكل منهما.
يعتبر النص على الحقوق والحريات في الأنظمة القانونية الحديثة سمة غالبة على دساتير الدول وقوانينها، وهو ما يعتبر تجسيداً عملياً لفكرة دولة الحق والقانون، وإن كانت كل دولة تختلف عن الأخرى في الأسلوب المنتهج في النص على الحقوق والحريات، إلا أن الثابت هو القيمة القانونية والعملية لهذه النصوص من خلال كونها حصناً وحماية للحريات من الانتهاك.
ولم تكتفي القوانين في مجال تحقيق الموازنة بين حقوق الفرد وسلطات الدولة عند تحصين الحقوق والحريات في صلب الدساتير والقوانين، بل نظمت من جهة أخرى سلطات الضبط الإداري ولم تتركها عرضه للسلطة التقديرية المطلقة للإدارة.
إن الحرية غاية عزيزة المنال تتأكد بها آدمية أفراد المجتمع وتصان كرامتهم، وتعد من المقدسات التي يجب إحاطتها بالضمانات الكافية لحمايتها والحفاظ عليها، ولكنها لا يمكن أن تكون مطلقة بأي حال من الأحوال، إذ يترتب على إضفاء تلك الصفة عليها حلول الفوضى والمساس بحريات الآخرين، الأمر الذي يقتضي أن تكون الحرية المنظمة في مضمونها ومحددة في إطارها بشكل يحول دون انحرافها أو إساءة استعمالها، مما جعل من وظيفة الضبط الإداري أمر بالغ الأهمية في عملية التوازن بين الحفاظ على النظام العام وتنظيم الحريات العامة للأفراد، وعلى الرغم من الضمانات المكفولة دستوراً للحريات العامة للأفراد، إلا أن هذه الحريات (الفردية والجماعية) تتأثر بشكل كبير في ظل الظروف الاستثنائية نتيجة القيود المفروضة عليها من طرف سلطات الضبط الإداري التي تتوسع صلاحياتها في ظل هذه الحالة لمواجهة الوضع الخطر داخل الدولة، حيث يخول لها صلاحيات خطيرة قد تصل إلى حد إيقاف العمل بالدستور لمواجهة هذه الظروف، إضافة إلى الإجراءات الخطيرة التي تهدف إلى قرارها في ظل هذه الحالة، وبالرغم من محاولة المشرع حماية الحقوق والحريات العامة للأفراد بالنص على عدة ضمانات إلا أن هذه الضمانات تبقى غير كافية، فوضع الحقوق والحريات في الدولة لا يقاس بالمبادئ والقواعد التي نص عليها القانون بقدر ما يقارس بمدى تفعيل الحماية التي تجسدها أجهزة الرقابة.. لأن الرقابة هي التي تحافظ على التوازن بين الحريات العامة وسلطات الضبط الإداري، فإذا تغلبت الحرية على النظام العام يعني ذلك الفوضى، وإذا كان العكس يسمى الاستبداد والدكتاتورية، لذلك يجب الحفاظ على التوازن بينهما.
اكتشاف المزيد من الصحيفة القضائية |
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
لا تعليق