سلطات القاضي الجنائي في تقدير الدليل الإلكتروني


دكتور جلال فضل

القاعدة العامة في الأدلة القانونية في الدعوى المدنية، هي التي حددها المشرِّع وحدد قوة كل منها والتي لا يمكن الإثبات بغيرها، ولا يمكن للقاضي أن يمنح أي دليل منها قوة أكبر مما حدد لها المشرِّع.


أما في الدعوى الجنائية فإن للقاضي حرية تكوّن قناعته من أي دليل مطروح في الدعوى، فالأدلة غير محصورة، إلا أنه يرد على ذلك استثناءات معينة على حرية القاضي، حيث يحدد القانون أدلة معينة يجب أن تتوفر في الدعوى من أجل إدانة المتهم فيها، وتكون لهذه التفرقة في حرية القاضي أهمية للأدلة المادية والقولية، أما للأدلة القانونية فإنها تنحسر، ومثال ذلك أشترط المشرِّع وجوب تواجد أربعة شهود في جريمة الزنا.


فالقاضي الجنائي قبل أن يصدر حكمه يقوم بالبحث عن الحقيقة، وهو في سبيل ذلك يقوم بفحص الأدلة الجنائية ويطرحها في الجلسة ليتناولها الخصوم بالفحص سيعًا للوصول إلى الحقيقة التي ترضي ضميره، وتكوّن اقتناعه الشخصي لتحقيق العدالة، وتختلف سلطة القاضي الجنائي في تقدير أدلة الإثبات من دولة إلى أخرى حسب ما تعتنقه كل دولة من أنظمة الإثبات.


كذلك في الجرائم الإلكترونية فالقاضي الجنائي ليس حرًّا في تقدير أي دليل إلكتروني وخاصة التقييم الفني للأدلة الإلكترونية بل فقط تقدير الدليل الإلكتروني المقبول في الدعوى، بمعنى النظر في الأدلة الإلكترونية التي تم الحصول عليها بطريقة مشروعة.
ولمزيد من الإيضاح حول معرفة مدى سلطات القاضي الجنائي في تقدير الدليل الإلكتروني سنقوم بتقسيم هذا المقال إلى النقاط الآتية:
أولًا: مبدأ قناعة القاضي الجنائي والضوابط التي تحكمه.
فمبدأ القناعة الوجدانية، يخول القاضي الجنائي حرية كاملة وسلطة واسعة في تقدير الأدلة التي تطرح أمامه في الدعوى، بما فيها الأدلة الرقمية، واستخلاص اقتناعه من هذا الدليل أو ذاك، وبأية وسيلة يراها موصلة إلى الحقيقة، شرط أن يصدر القاضي حكمه عن اقتناع يقيني بالأدلة، لاسيما الأدلة المتحصلة من الحاسب الآلي ومخرجاته الإلكترونية، فسلطة القاضي الجنائي في تقدير الأدلة مقيدة بضرورة أن يؤسس قناعته على أدلة قاطعة وحاسمة؛ لأن الأحكام الجنائية لا تبنى على الشك أو التخمين بل على الجزم واليقين، والوصول إلى يقينية الدليل الرقمي يتم عن طريق ما يستنتجه القاضي بمختلف وسائل إدراكه من خلال معاينته لهذا الدليل، وما ينطبع في ذهنه من تصورات ذات درجة عالية من التوكيد عن طريق التحليل والاستنتاج والربط بين الوقائع.

وإذا كانت سلطة القاضي الجزائي في تقدير الدليل تتسع لتشمل الأدلة العلمية؛ إلا أن تطور العلوم وتشعب فروعها، ومقتضيات المنطق والعقل والعدالة توجب على القاضي، – وهو ذو تكوين قانوني غير قادر على إدراك الحقيقة المتعلقة بأصل الدليل الرقمي – أن يؤسس اقتناعه بالدليل الرقمي على رأي الخبرة الفنية في هذا المجال، فيجعل من هذا الرأي سندًا له في تمتع الدليل الرقمي بقيمة إثباته قد تصل إلى حد اليقين، فتحديد القيمة العلمية للدليل أمر لا يملك القاضي أية سلطة في تقديرها؛ لأنها حقيقة ثابتة، وليس من اختصاصه مناقشة الأمور العلمية البحتة، وإنما من اختصاص ذوي الخبرة في هذا الشأن، وليس للمحكمة أن تبت من تلقاء ذاتها، كما أنها لا تستطيع أن تحل نفسها محل الخبير الفني في المسائل الفنية البحتة، وعليها الاستعانة بخبير تخضع خبرته ورأيه لتقديرها، أما بالنسبة إلى الظروف والملابسات التي وجد فيها الدليل إذا تبين له أن وجوده لا يتناسب منطقيًا مع ظروف الواقعة؛ لأن القاضي يتمتع بسلطة تقدير الأدلة والتحقق من سلامة إجراءات الحصول عليها ومشروعيتها.

هناك ضوابط بمثابة صمام أمان إزاء انحراف القاضي عند ممارسته لها، فضوابط تتعلق بالدليل الإلكتروني، وأخرى تتعلق بالقاضي الجنائي نفصلها على النحو الآتي:
1– الضوابط المتعلقة بالدليل الإلكتروني:
فيما يتعلق بالدليل الإلكتروني فهناك ضابطان يتحكمان بقناعة القاضي بالأدلة الإلكترونية هما:
شروط قبول الدليل الإلكتروني:
فالقاضي ليس حرًّا في تقدير أي دليل إلكتروني؛ بل فقط تقدير الدليل الإلكتروني المقبول في الدعوى، بمعنى النظر في الأدلة الإلكترونية التي تم الحصول عليها بطريقة مشروعة، إعمالًا بمبدأ الشرعية الإجرائية، وبالتالي تستبعد في مقابل ذلك من المرافعة سائر الأدلة الإلكترونية غير المقبولة، لأنها لا تدخل ضمن عناصر تقديره.

شروط وضعية الدليل الإلكتروني:
من القواعد الأساسية في الإجراءات الجزائية أنه لا يجوز للقاضي أن يبني حكمه على أدلة لم تطرح لمناقشة الخصوم في الجلسة، وهو ما يعبر عنه بوضعية الخصوم في الجلسة، وما يعبر عنه بوضعية الدليل، ومقتضى ذلك أن يكون للدليل أصل ثابت في أوراق الدعوى وأن تتاح للخصوم فرصة الاطلاع عليه ومناقشته، وكلا الأمرين ينبغي توافرهما، ويترتب على ذلك أنه لا يجوز للقاضي الجنائي اقتناعه على دليل قدّمه أحد أطراف الدعوى إلا إذا تم عرضه في جلسة المحاكمة، وخضع للمناقشة بحيث يكون معلومًا لكافة أطراف الدعوى.

2- الضوابط المتعلقة بالإقناع ذاته:
يتيح مبدأ الإثبات الجنائي حرية كبيرة للقاضي في تقدير عناصر الإثبات بما في ذلك الأدلة الرقمية، وعليه فإن تقدير كفاية أو عدم كفاية الدليل الإلكتروني في إثبات الجريمة الإلكترونية ونسبتها إلى مرتكبها أمر متروك لمحكمة الموضوع المعروض عليها الدليل، ولا تخضع في ذلك لرقابة محكمة النقض التي يقتصر دورها على مراقبة المنطق القضائي لمحكمة الموضوع عن طريق رقابتها على صحة تسبيب الحكم.

وعليه لبلوغ القاضي درجة الاقتناع التام للفصل في القضية، لا بد له من شرطين هما:
بلوغ الاقتناع القضائي درجة اليقين: تقتضي العدالة أن يصدر القاضي حكمه عن اقتناع يقني بصحة ما ينتهي إليه من وقائع لا مجرد الظن والاحتمال.
توافق الاقتناع مع مقتضيات العقل والمنطق: ومعنى ذلك أن يكون استخلاص محكمة الموضوع لوقائع الدعوى استخلاصًا للمعقول، وأن معيار معقولية الاقتناع بما في ذلك الأدلة الإلكترونية، هو أن تكون هذه الأدلة مؤدية إلى مرتبة الحكم عليها من غير تعسف في الاستنتاج ولا تعارض مع مقتضيات العقل والمنطق.

ثانيًا: الدور الإيجابي لقاضي الجزائية في تقييم الأدلة الإلكترونية
المقصود بالدور الإيجابي للقاضي الجنائي هو عدم التزام القاضي بما يقدمه أطراف الدعوى من أدلة، وإنما له سلطة فيها، ويجب عليه أن يبادر من تلقاء نفسه إلى اتخاذ الإجراءات المناسبة للتحقيق في الدعوى والكشف عن الحقيقة.
فالقاضي غير ملزم بأن يقتنع بما يقدّمه إليه أطراف الدعوى، وإنما عليه أن يبحث بنفسه عن الأدلة اللازمة لتكوين قناعته.
فالقاضي الجنائي من واجبه أن يتحرى عن الحقيقة بجميع الوسائل، سواء نص عليها القانون أم لم ينص، وهذا مأ أكدته المادة (212) من القانون رقم (3) لسنة 2001م من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري.


بالإضافة إلى النظام الإجرائي السائد في الدولة هو الذي يحدد دور القاضي الجنائي، فإذا كان النظام المتبنى هو النظام الاتهامي فمن الطبيعي أن يكون دور القاضي الجنائي سلبيًا؛ لأن هذا النظام ينظر إلى الدعوى الجزائية على أنها ملك الطرفين أحدهما هو الادعاء الذي يمثله المضرور من الجريمة والآخر هو مرتكب الجريمة، و لا شأن للسلطات العامة بجميع الأدلة، وينحصر دور القاضي في فحص الأدلة المقدمة من قبل الأطراف، أما إذا كان النظام التنقيبي هو المهيمن على الإجراءات الجزائية كالقانون الجزائري عندها يكون للقاضي دورٌ إيجابيٌّ، على أساس أن الضرر الذي تحدثه الجريمة ليس ضرر فرديًا فحسب، وإنما ضرر يهدد مصلحة المجتمع في أمنه واستقراره وسلامته.


ويظهر الدور الإيجابي للقاضي الجنائي في توفير الدليل الإلكتروني، من خلال مهمة البحث عن الأدلة وتقديمها في مرحلة المحاكمة، وتقع بصفة أساسية على عاتق الادعاء والدفاع كما أن القاضي يتحمل جانبًا من هذه المسؤولية.
وفيما يتعلق بالجرائم الإلكترونية فإن القاضي الجنائي يستطيع من أجل الوصول إلى الحقيقة أن يوجه أمرًا إلى مزود الخدمة الأنترنت التي زارها ووقت الزيارة والصفحات التي اطلع عليها، والملفات التي جلبها والحوارات التي شارك فيها والرسائل الإلكترونية التي أرسلها واستقبلها، وغيرها من المعلومات المتعلقة بكل أفعال المستخدم عندما يتصل بالشبكة.


كما أن القاضي الجنائي يمكنه أن يأمر القائم بتشغيل النظام بتقديم المعلومات اللازمة لاختراق النظام، والولوج إلى داخله كالإفصاح عن كلمات المرور السرية والشفرات الخاصة بتشغيل البرامج المختلفة، أو تكليفه بحل رموز البيانات المشفرة داخل ذاكرة الحاسوب، والقاضي الجنائي يملك سلطة الأمر بتفتيش نظم الحاسوب بمكوناته المادية والمعنوية، وشبكات الاتصالات متى رأى ضرورة هذا الاجراء.


وبصفة عامة يتمتع الدليل الإلكتروني بقيمة إثباتية قد تصل إلى حد اليقين، فتحديد القيمة العلمية للدليل الإلكتروني أمر لا يملك القاضي أية سلطة في تقديرها؛ لأنها حقيقة ثابتة، وليس من اختصاصه مناقشة الأمور العلمية البحتة، وإنما هي من اختصاص ذوي الخبرة في هذا الشأن، وليس للمحكمة أن تبت من تلقاء ذاتها، كما أنها لا تستطيع أن تحل نفسها محل الخبير الفني في المسائل الفنية البحتة، وعليها الاستعانة بخبير تخضع خبرته ورأيه لتقديرها.


أما بالنسبة إلى الظروف والملابسات التي وجد فيها الدليل الإلكتروني، فالقاضي الجنائي يستطيع أن يرفض هذا الدليل إذا تبين أن وجوده لا يتناسب منطقيًا مع ظروف الواقعة؛ لأن القاضي يتمتع بسلطة تقدير الأدلة، والتحقيق من سلامة إجراءات الحصول عليها ومشروعيتها.


ويُعدُّ الرأي الغالب في الفقه المقارن أن الأدلة المستخرجة من الحاسوب تتمتع باليقين المنشود في الأحكام الجزائية، ومن ثم هي من أحسن وأفضل الأدلة، بعدّها أحد أقسام الأدلة المادية العلمية، بل أكثر منها حجية في الإثبات؛ لأنها محكمة بقواعد علمية وحسابية قاطعة لا تقبل التأويل.
ويمكن وصول القاضي إلى اليقين في هذه الحالة من خلال ما يعرض عليه من مخرجات إلكترونية بمختلف أنواعها وأشكالها، وما ينطبع في ذهنه من تصورات واحتمالات بالنسبة إليها، وأن يحدد قواتها الاستدلالية على صدق نسبة الجريمة إلى شخص معين من عدمه.


فالمعلومات المخزنة في الحاسوب من أفضل الأدلة المتاحة لإثبات هذه البيانات، ومن هنا تُعدُّ من أفضل الأدلة ويتحقق مبدأ اليقين فيها، واستلزام يقينية المخرجات الإلكترونية يُعدُّ ضمانة أساسية تحد من احتمال انحراف القاضي بممارسة سلطته في تقدير الأدلة، وتضفي عليها المصداقية واقترابها من الحقيقة، ومن قبولها بوصفها أدلة إثبات في المواد الجزائية فلا محل لدحض قرينة البراءة وافتراض عكسها، إلا عندما تصل قناعة إلى حد الجزم واليقين، الذي يتم عن طريق ما تستنتجه وسائل الإدراك المختلفة للقاضي من خلال ما يُعرّض عليه من مخرجات الحاسوب سواء أكانت مخرجات إلكترونية أم كانت مجرد عرض لهذه المخرجات على الشاشة الخاصة بالحاسوب.


كما اشترطت بعض التشريعات، كاليوناني والنمساوي والسويسري والنرويجي، في سبيل يقينية الدليل الجزائي أن يكون الدليل الرقمي مقروءًا، سواء أكان مطبوعات على ورق بعد خروجه من الحاسوب أم كان مقروءًا على شاشة الحاسوب ذاته.


وبناءً على ما تقدّم نستطيع القول إن القاضي الجنائي إذا قرَّر صحة الدليل الرقمي، وأن استخلاصه كان متسقًا مع الظروف الواقعة وملابساتها، فإنه يستطيع بناءً على قناعته عليه، شرط أن تتوافر الضمانات التي يستلزمها القانون لكي يأتي الاقتناع القضائي سليمًا، ولكن من الواجب أن يؤسس القاضي الجزائي قناعته على جزم ويقين، مستندًا إلى حجج ثابتة وقطعية، تجعل هذا اليقين ثابتًا لا يناقضه شك أو احتمال آخر، فالدليل الرقمي من حيث إثباته للوقائع الإجرامية، تتوافر فيه شروط اليقين، ويترتب على ثبوت التهمة بلوغ الاقتناع بالإدانة درجة اليقين من جانب القاضي الجزائي؛ لأن الاقتناع ثمرة اليقين، وبناءً عليه يسمح الدليل الرقمي للقاضي بأن يستند إليه بوصفه دليل إثبات، ويكون الحكم الذي بني عليه حكمًا سليمًا وعادلًا.

واقتناع القاضي بالدليل الإلكتروني يكون مرهونًا بالشروط الآتية:
1
– الإحاطة بكل الأدلة المدرجة في ملف الدعوى، ومناقشاتها جميعًا طبقًا للقانون وعدم الاكتفاء بمناقشة بعضها.
2– أن يكون الدليل ضمن أوراق الدعوى ويطرح في جلسة المحكمة.
3– أن يكون وليد إجراء مشروع.
4– أن تكون الأدلة متساندة ومتماسكة، ولا يشوبها خطأ في الاستدلال أو تناقض.
5– أن يكون الحكم مبنيًا على الجزم واليقين، لا على الفرض أو الظن أو الترجيح؛ لأن الشك يفسر لصالح المتهم.
6- أن لا يحكم القاضي دون دليل اعتمادًا على ما يدور في نفسه، بل من خلال الأدلة المقدمة إليه.
7- يجب أن يكون القاضي حرًّا في قناعته في تقييم الأدلة المقدمة إليه، وهذا ما يُعرَف بالاقتناع الشخصي للقاضي.

ثالثًا: صلاحية القاضي في تقدير الأدلة في الاتجاهات المختلفة للدول
انقسمت الدول، في مجال الإثبات الجنائي في الجرائم الإلكترونية، إلى اتجاهات مختلفة، حيث تبنت كل دولة الأخذ بنظام إثبات معين، فبعض الدول أخذت بنظام الإثبات الحر، وبعض الدول أخذت بنظام الإثبات المقيد، وبعضها أخذ بنظام الإثبات المختلط.
1- نظام الإثبات الحر (النظام اللاتيني):
وقد أخذ بهذا النظام العديد من الدول مثل: (فرنسا، الأردن، مصر، سوريا، لبنان)، ويعتمد هذا النظام على منح القاضي الحرية في تقدير الدليل سواء كانت الأدلة تقليدية أو عملية حديثة كالأدلة الرقمية، وقد أكَّد على ذلك المشرِّع الفرنسي عندما نصّ في المادة (427) من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسية على ما يلي: “مالم يرد نص مخالف، يجوز إثبات الجرائم بجميع الطرق، ويحكم القاضي بناءً على اقتناعه الشخصي”، وتأكيدًا على ذلك قضت محكمة النقض الفرنسية في أحد قراراتها بصلاحية القضاء بالأخذ بأشرطة التسجيل الممغنطة والمدمجة، وعدّها صالحة للتقديم أمامها.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل التسجيلات الصوتية الممغنطة والمسجلة إلكترونيًا حجية في مسائل الإثبات الجنائي أم لا؟
يرى جانب من الفقه أنه من الصعوبة التلاعب بهذه التسجيلات، ويمكن لخبراء الأدلة الرقمية اكتشاف التلاعب فيها إن وجد وبكفاءة فنية وتقنية عالية، وبالتالي فإن التسجيلات الممغنطة لها الحجية الكاملة في الإثبات الجزائي بعدّها من الأدلة التي تحمل الخطأ والتلاعب فيه.


وقد سارت على الأخذ بهذا الاتجاه مُعظم الدول الأوروبية (كألمانيا، واليونان، وكذلك أمريكا اللاتينية كالبرازيل)، وقد اعتمدت هذه الدول على الأخذ بنظام الإثبات الحر من حيث خضوع الأدلة الرقمية لسطات القاضي وقناعته الوجدانية، فله قبول الدليل أو رفضه، سيمًا إذا وجد أن هذه الأدلة لا تنسجم مع العقل والمنطق ووقائع الدعوى المطروحة عليه.
2- نظام الإثبات المقيد (الأنجلوسكسوني):
ويستند هذا الاتجاه على عدم منح القاضي السلطة التقديرية للدليل مهما كان نوع الدليل تقليديًا أم رقميًا، بمعنى أن القاضي لا يملك تقدير حجية الدليل بالمطلق، فالقانون هو الذي يحدد للقاضي ماهية الدليل ونوعه، وقيمته القانونية وحجيته في الإثبات الجزائي، وخلاصة ذلك أن الدليل لا يكون له القيمة القانونية إلا إذا نصّ القانون عليه وعدّه ضمن القائمة، فعدم وجود النص يعني لا قيمة للدليل، وليس له الحجية في الإثبات الجزائي.
ومن الدول التي أخذت بهذا النظام بريطانيا حيث حدد المشرِّع البريطاني أدلة الإثبات في قانون الشرطة والإثبات الجنائي الصادر عام 1984م متناولًا المشرِّع البريطاني في هذا القانون أدلة الإثبات في القضايا الجنائية بصورة دقيقة، لاسيمًا أن المشرِّع لم يمنح القاضي صلاحية تقدير الدليل من حيث قبوله أو رفضه. وقد سارت على نهج الأخذ بنظام الإثبات المقيدة العديد من الدول كالولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، وفي أمريكا صدر قانون الحاسب الآلي عام 1984م متمخضًا عنه عدّ مخُرجات الحاسوب الإلكتروني أدلة لها قيمة وحُجتها القانونية.
3- نظام الإثبات المختلط:
أخذ هذا النظام بالجمع بين النظام اللاتيني والنظام الأنجلوسكسوني، بمعنى أن نظام الإثبات المختلط منح القاضي السلطة التقديرية لقبول الدليل في بعض أدلة الإثبات كالأدلة الرقمية.


وفي أدلة أخرى القاضي لم يكن له إلا التزام بالنص القانوني، والذي يحدد القيمة والحجية للدليل هو القانون وليس القاضي، ففي بعض الدول كاليابان التي أخذت بنظام الإثبات المختلط عدّت أن الأدلة الجنائية التقليدية (كالشهادة، وأقوال المتهم والقرائن، والخبرة) هي أدلة قانونية، وليس للقاضي سلطة تقديرية فيها؛ لأن القانون هو الذي يمنح هذه الأدلة القيمة والحجة القانونية، بينما استقر الفقه الجنائي الياباني على أن الأدلة الإلكترونية تخضع للسلطة التقديرية للقاضي فمثلًا: المجالات الإلكترومغناطيسية إذا كانت غير ملموسة أو مرائية لا تُعدُّ دليلًا يستند عليه القاضي المختص، أما إذا تحولت المجالات الإلكترومغناطيسية إلى أدلة مقروءة ومرئية فيمكن عدّها دليلًا في الإثبات الجنائي، وهذه تخضع للسلطة التقديرية للقاضي بحكم طبيعة الدليل ووقائع الدعوى.


اكتشاف المزيد من الصحيفة القضائية |

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

لا تعليق

اترك رد