اختلاف التعبير عن الإرادة


القاضي/ عصام بن عبيدالله

الإرادة أمر باطني يتعلق برغبات الشخص وميوله الشخصية، وحتى تصبح الإرادة لها أثر قانوني معين، يتعين أن يعبر الشخص عن إرادته ويخرجها للعلن عن طريق أحد وسائل التعبير عن الإرادة، سواء في ذلك وسائل التعبير الصريح كاللفظ، والكتابة، والإشارة، أو وسائل التعبير الضمني التي يعتد بها القانون لدلالة على تعبير شخص عن رغبته في إبرام تصرف ما أو فسخه أو تعديله ، ومتى كان تعبير الشخص عن إرادته صريحًا واضحًا لا يتحمل إلا معنًى واحدًا فلا إشكال في فهم مراد المتعاقد ومبتغاه، ويستوى أن يكون ذلك التعبير قد تمَّ بطرائق التعبير الصريح أو حتى الضمنية ما دام له معنى واحد، وفهم الجميع مراد المتصرِّف فيه بلا ريب أو لبس.

بيد أن استعمال الأشخاص لوسائل وطرائق التعبير عن الإرادة لا يقع على درجة واحدة، ولا يتم بذات الوضوح والبيان؛ مما يوجد خلافًا ونزاعًا بين أطراف الرابطة القانونية في تفسير نصوص التصرفات التي أبرموها، ويحتدم الخلاف بين متمسك بظاهر النصوص العقدية، منكرًا التوافق على خلافها ، وبين مدعٍ لإرادة أخرى لدى الأطراف لم يوفقوا في التعبير عنها في العقد، ولكنها قد تفهم من السياق الذي رافق إبرام التصرفات، والغالب أنه لا يوجد بنصوص العقد أي إشارة لها، ومع ذلك يدعي أحد الطرفين حدوث التوافق عليها، وإن لم تظهر في نصوص العقد المكتوب، وهذا الاختلاف بين إرادة الأطراف المعبر عنها في التصرفات، والإرادة التي قصد الأطراف التعبير عنها، ولم تظهر مدونة في التصرفات المتوافق عليها بينهما، قد يكون نتاج جهل أحد الطرفين أو كليهما عند إبرام التصرف، وقد يكون مرده تسامحهما في ذكر بعض التفصيلات عقب التوافق على الأمور الأساسية الجوهرية، وقد يكون سبب الاختلاف هو سوء نية أحد المتعاقدين، الذي قد يستغل جهل الطرف الآخر.

وأيًا كان سبب الاختلاف في التعبير عن الإرادة؛ فإن هذا الأمر يوجد نزاعًا محتدمًا بين الخصوم في تفسيرهم لنصوص العقود، والتصرفات، وهو ما يوجب على القاضي البحث عن الإرادة الحقيقية، وقد ظهر فقهًا وجود نظريتين هما: نظرية الإرادة الباطنة، ونظرية الإرادة الظاهرة، ولكليهما مبررات ومسوغات سنقف عليها مع بيان رأي القانون المدني اليمني من أخذه لأي منهما، ويسبق ذلك تصور لتلك المسألة.

ويتصور وجود الاختلاف بين الإرادة الظاهرة، والإرادة الباطنة في مثل إذا عرض أحد المحلات بضاعته للجمهور وكتب عليها بالخطأ ثمنًا أقل من الثمن الذي يريده صاحب المحل للبضاعة، وكذا إذا وقَّع المتعاقد على أحد الشروط التي لم يفطن لها، ولا يريدها، رغم أن إرادته متجهة لقبول العقد، ولا ينازع في صحة توقيعه المثبت به.. فهل يعتد بحقيقة ما أراده المتعاقد في المثالين أم نتوقف عند الإرادة الظاهرة والمعبر عنها في ظاهر السلعة في المثال الأول؟ و المذكورة في العقد في المثال الثاني؟.

أما نظرية الإرادة الباطنة، فإنه يعول على الإرادة الحقيقية للمتعاقدين؛ كونها تمثل حقيقة ما قصده، واتجهت الإرادة نحوه، فالإرادة في الأساس أمر كامن في النفس، والتعبير الذي وقع الخطأ فيه ما هو إلا دليل على الإرادة فيجوز إثبات عكسه، وذلك بتقديم الأدلة لإثبات الإرادة الباطنة الحقيقية التي اتجهت إليها إرادة الطرفين، وإن لم ينص العقد عليها، ولا يوجد في العقد ما يشير إليها مطلقًا.

وأما أرباب نظرية الإرادة الظاهرة، فتأخذ بالإرادة التي خرجت للعلن، التي أفصح عنها المتعاقدان، فهي تقف عند التعبير الذي عبر عنه المتعاقدان وتتمسك به؛ لأنه المظهر المادي الذي تتجسم فيه الإرادة، ومبررهم في ذلك إن الإرادة الباطنة أمر نفسي، والتعويل عليها وجعلها هي الأساس؛ أمر يفقد المعاملات الاستقرار والثبات، وكذا فإن الإرادة ظاهرة نفسية، والقانون ظاهرة اجتماعية؛ ومن ثمَّ فلا يعتد بالإرادة إلا في مظهرها الاجتماعي، إذ لا نستطيع التوصل إلى إرادة الأطراف الباطنة، إنما نتوقف عند الإرادة التي عبروا عنها علنًا، وافصحوا عنها بإحدى وسائل التعبير عن الإرادة المقررة قانونًا، وهذه النظرية تحافظ على استقرار التعاملات بعيدًا عن الغوص في البحث عن إرادة مخفية، تخالف ما هو معبر عنه صراحة.

ويذهب بعضهم إلى أن القانون المدني اليمني يأخذ بالإرادة الباطنة بوصفها قاعدة عامة، معولًا في ذلك على ما أورده المقنن في المادة (6) مدني، التي نصَّت على “الأمور بمقاصدها، والعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني”، كما يأخذ بالإرادة الظاهرة استثناءً بالقدر الذي يحقق الاستقرار في التعامل، إذ اشترط المقنن في المادة (152) مدني، لتكوين العقد، توافق الإيجاب والقبول، وهما المظهر الخارجي المحسوس للإرادة.

والذي يظهر أن على القاضي الذي يثار أمامه الخلاف في التعبير عن الإرادة الظاهرة بالادعاء بوجود إرادة باطنة خلاف ما دون وظهر في التعاقدات أو التصرفات المكتوبة، فإن عليه أن ينطلق من أصل التوقف عند الإرادة الظاهرة المفصح عنها، والمعبر عنها بوضوح في التعاقدات والتصرفات المكتوبة؛ كونها الأصل المتعين الأخذ به؛ والمصير إليه حفظًا للمعاملات واستقرارها بين الأطراف؛ والقول بخلاف ذلك فيه إهدار للتعاقدات، والشروط التي اتجهت إرادة الأطراف للأخذ بها وعبروا عنها في موافقتهم عليها من خلال ما دون وظهر من الإرادة، ولذا فقد نصَّت المادة (212) مدني على “إذا كانت عبارة العقد واضحة فلا يجوز العدول عنها عن طريق تفسيرها بحجة التعرف على إرادة المتعاقدين”.

فالعدول عن الأمر الظاهر المعبر عنه بوضوح غير مقبول، ولا يجوز الالتفات عنه بعلة تفسير العقد، والبحث عن إرادة المتعاقدين الحقيقية، فإرادتهما ظهرت وبرزت للعلن من خلال ما دون بوضوح في العقد، والمقنن في صدر المادة ذاتها نصَّ على “يجب تنفيذ العقود طبقًا لما اشتملت عليه، وبطريقة تتفق مع ما توجبه الأمانة والثقة بين المتعاقدين”، ونفاذ العقود يوجب التقيد بما جاء فيها، وأما الادعاء بوجود توافق آخر خلاف ما دون فهو مخالف للأصل، ومخالف للثابت والقول به مناقض للثقة بين المتعاقدين، وتحقيق الثقة بين المتعاقدين، وإسباغ الطمأنينة بينهما أمر مهم، ولا يمكن المصير إليه إلا متى توقف الجميع عند الإرادة الظاهرة المبرزة للعلن، وتركوا الادعاء بخلافها كونه اليقين المتعين المصير إليه وفق المادة (9) مدني، والأصل انعدام وجود أي توافق على خلاف ما ظهر طبقًا للمادة (11) مدني، والأصل في العقود والشروط الوفاء بها ، وفقًا للمادتين (14،13) مدني.

وأما التمسك بالمادة (6) مدني، التي تنصُّ على أن الأمور بمقاصدها، فإن هذا الأمر ليس فيه ما يؤكد أن المقنن المدني يأخذ بالإرادة الباطنة، بل المقصود بهذه المادة هو الحالة التي يقع الخلاف فيها مع وجود ما يبرر ذلك الخلاف في ذات نصوص العقد أو التصرّف، حيث يظهر وجود خلاف عند النظر الظاهري للعقد، فحينها يتعين النظر لما قصده الأطراف، وما سعوا للوصول إليه، وهذا الأمر يقع غالبًا عندما يكون في النصِّ عدم دقة في التعبير، أو عدم وضوح في العبارة، هنا يتعين المصير لمقصد الأطراف، ومبتغاهم من التعاقد، إلا أنه لا يُعدُّ أخذًا بإرادة باطنة؛ بل هو في حقيقته أخذٌ بالإرادة الظاهرة، وتكملة لها حال الغموض ، والتضارب في التعبير فحسب.

ومما يكثر من الأطراف في المنازعات القضائية هو الادعاء من المدين الملزم بالعقد بوجود التزامات وبنود أخرى لم ينص عليها العقد، ولكن تم التوافق الشفهي عليها، ويدَّعي أن له حقوقًا تعاقدية، توافق عليها الطرفان لم تدون بالعقد، ويطلب من المحكمة سماع أدلته، لإثبات ذلك، ويشرع في تقديم الأدلة المتمثلة غالبًا في الشهود لإثبات خلاف ما دون بالعقد المكتوب، وهذا الأمر يجب أن لا يفتح المجال فيه لأنه إهدار للوقت والجهد؛ إذ الغالب إن مدعي الإرادة الباطنة يعجز عن إثبات خلاف ما دون، إذ تقصر شهادة الشهود على إثبات مجرد التفاوض، والمراحل الأولية والتمهيدية للتعاقد، التي انتهت إلى الإرادة المفرغة في العقد المكتوب، مما يجعل الهدف من الادعاء وطلب سماع الأدلة ليس إثبات ما يدّعيه؛ بل يهدف لإطالة أمد النزاع لا أكثر، وهو ما يوجب التصدي لمثل هذا الأمر والتنبه إليه، من خلال عدم الانصياع لطلبات سماع الأدلة بخلاف ما دون بالعقود المكتوبة إلا بالقدر الذي لا يخل بحق الدفاع.

على أن ما تقدم لا يعني أن يعرض القاضي بالمطلق عن كل ما يثار من الادعاء بشأن الإرادة الباطنة، إنما له أن يأخذ بها متى استقام الدليل الحامل لها، لكن ذلك يجب أن يكون في أضيق الحدود وأدناها؛ بوصفها من قبيل الاستثناء الذي لا يتوسع فيه، ولا يغالى في الأخذ به، ومعه يمكن أن تستقر المعاملات ويطمئن المتعاقدان لما دونوه وتوافقوا عليه.

*رئيس المحكمة التجارية الابتدائية بالمكلا


اكتشاف المزيد من الصحيفة القضائية |

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

لا تعليق

اترك رد