القاضي/ عبد العليم المليكي
تكمن الإشكالية في أن القصد الجنائي مسألة باطنية تتجرد من كيانها المادي الملموس ويصعب أن يرد عليها الدليل المباشر، لذا فإن استظهاره يتفاوت في دقته من جريمة إلى أخرى تفاوتًا كبيرًا، فهو من اليسر بحيث يقارب الافتراض في أغلب جرائم الأموال كالسرقة وخيانة الأمانة، بينما يبلغ من العناء مبلغًا كبيرًا في جريمة من جرائم الأشخاص كالقتل العمد، فجميع جرائم القتل تشترك في أن النتيجة فيها واحدة وهي وفاة المجني عليه، ولكنها رغم ذلك تختلف في المسؤولية والعقوبة تبعًا لقصد الجاني فيها وخصوصًا قصد القتل، فكيف تستظهر محكمة الموضوع هذا القصد إثباتا أو نفيًا؟ خصوصًا أن نية القتل أمرًا خفيًا لا يدرك بالحس الظاهر، وإنما يدرك بالظروف المحيطة بالدعوى والإمارات والمظاهر الخارجية التي يأتيها الجاني، وتنم عما يضمره في نفسه، فإن استخلاص هذه النية من عناصر الدعوى موكول إلى محكمة الموضوع في حدود سلطتها التقديرية.
ويقوم القصد الجنائي في جرائم القتل العمدي على العلم وعلى الإرادة المنصرفين إلى ماديات الجريمة، ولذلك فإنه يجب أن يحيط علم الجاني بمختلف العناصر التي يقوم عليها البناء النظري للجريمة، فيعلم أنه يقوم بفعل ممنوع موجه إلى إنسان متّصف بصفة الحياة، ثم يعلم – أو على الأقل يتوقع – أن فعله هذا سوف يصيب ذلك الإنسان إصابة تزهق روحه، أي تعدم صفة الحياة التي كان متّصفًا بها، وهذا القدر من العلم كافٍ، لكونه محيطًا بالعناصر التي تدخل في بناء الجريمة، ولا يكفي إحاطة العلم بعناصر الجريمة بل لا بد أن تكون تلك العناصر محل إرادة الجاني، فيجب أن يكون الجاني مريدًا للفعل الممنوع الموجه إلى إنسان متّصف بالحياة، ومريدًا إصابته إصابة تزهق روحه، وإذا اقتصرت الإرادة على الفعل فقط دون النتيجة فإن حالة العمد تكون منتفيةً.
ولما كان القصد الجنائي يُعدُّ من الأمور الباطنية الخفية التي لا يستدل عليها إلا من خلال واقع أو ظروف الواقعة وملابساتها بجميع مراحلها سواء قبل الفعل أو أثناء الفعل أو بعده، فقد اختلف فقهاء القانون الجنائي حول المرحلة الزمنية التي يجب أن تنصرف فيها إرادة الفاعل الآثمة نحو السلوك الإجرامي ونتيجته عبر فعله المادي، وبالتالي لاكتمال الإسناد الجرمي ولترتب المسؤولية الجزائية عن ذلك الفعل، وبيان ذلك على النحو الآتي:
أولًا: الزمن المعاصر، ويقصد به تعاصر القصد والفعل، حيث تفترض القاعدة العامة أصلًا أن يترافق القصد الجنائي مع ودون تمييز بين النشاط الإجرامي المرتكب وبين الأثر الذي يقترن به، من نتائج جرمية في حال حدوثها عملًا بالمبدأ العام الذي يقضي: “يرجع فـي تحديد وقت ارتكاب الجريمة إلـى الوقت الذي تمت فيه أفعال تنفيذها دون النظر إلى وقت تحقق نتيجتها “، وحيث إن القاعدة المعروفة في هذا الشأن هي إن القصد الجنائي يمثل الجانب النفسي للجريمة، وثم كان لابد أن يقترن هذا الجانب بماديات الجريمة، وذلك يعني أن للعلم زمنًا معينًا يجب أن يتوافر فيه، وهو لحظة القيام بالفعل الممنوع الذي تقوم به الجريمة ولا يهم بعد ذلك أن تتحقق النتيجة فورًا أو تتراخى، ومن ثم فإن العلم المطلوب انصرافه إليها إنما هو من قبيل التوقع…إلخ.
ولذلك عُدَّ تاريخ ارتكاب الفعل الجرمي هو الذي يحدد بطريقة حاسمة اتجاه القصد الجنائي وتبلوره، ويوفر له القيمة القانونية بوصفه ضابطًا معنويًا لهذا الفعل المقصود؛ لأن القصد الجنائي في جوهره إرادة اتجهت اتجاهًا يخالف القانون، والإرادة تقترن بالنشاط الإجرامي وتسيطر عليه وتوجهه إلى إحداث النتيجة الجرمية المتولدة عن ذلك النشاط، على هذا فإن نية القتل في جريمة القتل العمد ينبغي أن تكون قائمة لدى الجاني حين ارتكابه فعل الاعتداء على المجني عليه، ومتى ما توافر القصد الجنائي في مرحلة القيام بالفعل واستمر لحين حدوث نتيجته الجرمية ، فإن الأمر لا يثير أية صعوبة.
ثانيًا: الزمن اللاحق، أحيانًا يتراخى الزمن بين فعل الاعتداء الذي يقوم به الجاني وحدوث النتيجة الجرمية المترتبة عليه، فتفصل بينهما فترة من الوقت تكفي لأن يغير الجاني من قصده، وهذا الزمن أثار بعض الإشكالات القانونية، وقد استقر الفقه الجنائي في تحديده في الحالتين التاليتين:
الحالة الأولى: وتتمثل في توافر القصد الجنائي لحظة ارتكاب الفعل الجرمي بحيث تعاصرت الإرادة الآثمة مع النشاط التنفيذي عند اقتراف الجريمة، ثم انتفى هذا القصد في عدول الفاعل طوعًا عنه بعد ذلك، تكون الجريمة قد تحققت بالمفهوم القانوني لها، غير أنه في هذه الحالة يقتضي التفريق بين وضعين:
الوضع الأول: الذي يصبح فيه رجوع الجاني عن قصده من نوع الندم الإيجابي أو (التوبة الإيجابية) في صورة الجريمة الخائبة، فقد يستفيد الفاعل في حال قيامه بما يحول دون تفاقم النتائج الإجرامية لفعله بأن لا يسأل عن الجريمة التي قصد ارتكابها ابتداءً (القتل العمد)، ولكنه يسأل عن جريمة أخرى أخف وطأة (الشروع في القتل مثلًا)، كالشخص الذي صمم على قتل غريمه بأن وضع له السم في طعامه، وبعد أن تناول المجني عليه الطعام المسموم ندم على فعلته، فأسعفه بالترياق وقضى على مفعول السم، وأنقذ غريمه من الموت.
الوضع الثاني: ويصبح فيه هذا الرجوع دون أي جدوى، ويُعدُّ نوعًا من الندم غير المفيد سواء وقع هذا العدول فور تنفيذ الفعل أو بعد تحقق النتيجة؛ لأنه في هذه الحالة يكفي أن يعاصر القصد النشاط الإجرامي، فإذا ما عدل الجاني بعد ذلك فلا عبرة بعدوله، طالما قد تحققت النتيجة التي أرادها بفعله، والفاعل يظل في هذه الحالة مسؤولًا مسؤولية عمدية عن الجريمة التي قصد ارتكابها ابتداءً، كالجاني في المثال السابق الذي يحاول إنقاذ المجني عليه، ولكنه يفشل في مسعاه ويموت المجني عليه مسمومًا، أو كمطلق النار الذي يندم على قتل غريمه فيستسلم فورًا إلى السلطات المختصة.
الحالة الثانية: وفيها لا يتوافر القصد الجنائي لحظة ارتكاب الفعل الجرمي، بحيث إن الإرادة الآثمة لا تعاصر إبراز الفعل المادي إلى الوجود الخارجي، ثم يبرز هذا القصد فيما بعد بصورة لاحقة ومفاجئة، فإنه في مثل هذه الحالة يقتضي التمييز بين وضعين، الأول إذا ما ظهر القصد الجنائي بعد تحقق النتيجة الجرمية، والثاني في حال ظهوره قبل تحقق تلك النتيجة.
الوضع الأول: إذا ظهر القصد الجنائي بعد تمام الفعل ونفاذه وبعد اقترانه بالنتيجة المترتبة عليه، فلا يكون لهذا القصد المتأخر أي مفعول على الجريمة التي تبقى في نطاق الخطأ غير العمدي، لانعدام عنصري القصد (العلم والإرادة) حين الفعل، كالصياد الذي يطلق النار على حيوان فيصيب إنسانًا ويتسبب في وفاته، ويتبين له فيما بعد أن المجني عليه غريم له، فيتمنى موته، أو كالشخص الذي يطلق الرصاص ابتهاجًا فيصيب شخصًا إصابة خطيرة ليس في إمكانه إنقاذه منها، ثم يتبين له أن هذا الشخص عدو له يرغب في حدوث وفاته.
الوضع الثاني: وفيه يظهر القصد الجنائي بعد تمام الفعل وقبل تحقق النتيجة الجرمية الناشئة عنه في وقت لا يُعدُّ فيه هذا الفاعل منفذًا للجريمة إلا بوقوع النتيجة المذكورة، ويبقى الفاعل مسيطرًا بإرادته وذهنه على تحرك هذا الفعل وإنجازه، وهنا يقتضي التفرقة بين أمرين:
الأمر الأول: إذا نشأ القصد الجنائي أصلًا عن علم الجاني وإدراكه لخطورة فعله غير المقصود، واقترن هذا العلم بالإرادة الآثمة، الراضية بحصول النتيجة المترتبة عن الفعل بحيث إن الفاعل لا يتدخل عامدًا لوقف النشاط الإجرامي والحيلولة دون حصول نتيجته، وكان باستطاعته اجتناب هذا الأمر، لكنه لم يفعل بسبب ارتضائه ذلك نفسيًا. عُدَّ القصد الجنائي في هذه الحالة وكأنه معاصرٌ للفعل الجرمي، ولو نشأ بعد ذلك لمعاصرته فعل الامتناع، فتلغى حالة الخطأ غير العمدي السابقة وتحل محلها حالة العمد اللاحقة، والمثال التقليدي الذي يورده الفقه لهذا الاتجاه هو الصيدلي الذي يخطئ في تحضير دواء، إذ يمزج به مادة سامة عن غير قصد ويسلمه إلى المريض، ثم يكتشف هذا الخطأ قبل تناول المريض الدواء، فيمتنع عن تحذيره عمدًا وارتضاءً للنتيجة، مع أنه كان بإمكانه ذلك، يُعدُّ مرتكب جريمة قتل عمد.
الأمر الثاني: يقتصر هذا الأمر على حالة تحقق ذات الوضع المشار إليه في الأمر الأول المقترن بعدم التدخل، لكن لأسباب ترتد إلى عدم القدرة في اجتناب النتيجة لقوة قاهرة أو لاستحالة مادية، فإن الفعل يبقى في نطاق الجريمة غير العمدية لانعدام الإرادة رغم توافر العلم، ومثال هذا الاتجاه كأن يكتشف الصيدلي نفسه أمر الدواء السام فور تسليمه إلى المريض، ولكن لا يكون باستطاعته تحذيره لجهله هوية المستلم مثلًا أو عنوانه أو غير ذلك من الأسباب، وتُعدُّ هذه الحالة تطبيقًا للمبادئ العامة، إذ طالما انتفى أحد عنصري القصد الجنائي، وهو الإرادة فإن الجريمة تبقى في حيز الخطأ غير العمدي.
ثالثًا: الزمن السابق، يحاول بعض الفقهاء استحداث نظرية جديدة مفادها أن القصد الجنائي قد يتحقق أصلًا وأساسًا في وقت سابق للفعل الجرمي وغير معاصر له، مستندين إلى فكرة الخطأ السابق، فيعدُّون أن من شأن هذا الخطأ إذا تسبب ولو بصورة غير مباشرة في جريمة عمدية لم ترتكب حين توافره، فإذا وقعت هذه الجريمة فيما بعد، فـإن من شـأن ذلك أن يعود القصد الجنائي الحاضر الذي ترافق مع الجريمة بتاريخ ارتكابها إلـى الفترة الزمنية السابقة التـي وقع فيها ذلك الخطـأ، قد يصح هذا القول في اعتماده أساسًا للجرائم غير العمدية المبنية على الخطأ السابق، كالسائق الذي لا يتمكن من ضبط كوابح سيارته والسيطرة على مقودها فيتسبب بحادث وفاة، وذلك لعلمه أن هذه الكوابح كانت معطلة قبل أن يقود سيارته، ولكنه أخطأ في عدم إصلاحها سابقًا، أما أن يرد هذا القول في معرض الجرائم العمدية، فقول مردود وغير مسلّم به قانونًا؛ لأن تحققها يبقى موقوفًا على توافر القصد ومعاصرته للفعل الجرمي.
مما سبق يمكننا أن نخلص إلى القول بأن المبدأ العام يقضي بأنه كي تُعدَّ الجريمة عمدية وتتحقق مسؤولية الجاني العمدية عنها، يشترط المشرّع تعاصر القصد الجنائي مع الفعل الجرمي، أما ما يتفرع عن هذا المبدأ من كون القصد الجنائي سابقًا أو لاحقًا للفعل التنفيذي، فإنه كلما ابتعد القصد عن فترة المعاصرة مع الفعل ابتعدت المسؤولية الجنائية عن العمد واقتربت بالمسافة نفسها من الخطأ غير العمدي.
والله الموفق..
*قاضي محكمة الأموال العامة م / عدن
اكتشاف المزيد من الصحيفة القضائية |
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.


لا تعليق