أحمد نبيل – القضائية
في ساعاتٍ لا تُنسى، عندما سقط رفيقٌ وأريقت دماءٌ على أسفلتٍ غادر، تتجلى معادن الرجال ويتضح من يستحق البنط العسكري وما يُحفظ له من شرف.. حادثة مقتل المساعد بارجاش التي تبعتها أحداث مؤلمة على مسرح الجريمة لم تكن مجرد جريمة فردية، بل اختبارًا صارخًا لمبدأ الأمن العسكري، ولثقة الجنود ببعضهم وبالقضاء العسكري الذي يفترض أن يحميهم ويكون ممسكةً بميزان العدالة بينهم.
القضية تضمنت حكماً على القاتل، وهذا بديهي، لكن ما لفت أنظار الجميع هو الحكم أيضاً على جنديٍ من النقطة — الجندي (م.ع.ص) — بتهمة تضليل العدالة بعد أن أخذ هاتف المتهم من مسرح الجريمة وكسر ما فيه من شرائح اتصال، فيما زملاؤه مرميين على الأرض والدم ينزف منهم، وذلك بحسب اعترافاته.. لم يهتز ضميره للكارثة: أخذ الهاتف وكسره، بل ادعى أنه لم يدرِ إن كان الهاتف صاحبه القتيل أو القاتل — تصريحٌ يكشف بلا مواربة عن تهربٍ من المسؤولية، أو على الأقل عن طمأنينةٍ مقلقة تجاه واجبات الحماية والحفظ لمسرح الجريمة.
هنا لا نتحدث عن مجرّد مخالفات إدارية بسيطة، نحن نتحدث عن فعلٍ عطَّل سير العدالة، زعزع ثقة الجنود ببعضهم، وأثار ضجةً واتهاماتٍ متبادلةً أثرت على الروح المعنوية في النقطة وفي محيطها.. وقد شهد قائد النقطة ومساعدوه في المحكمة أن الهاتف لم يُسلّم بسهولة، وأن الأمر تطلب تحقيقًا وإصرارًا من المتهم لينكشف أمره — وضعٌ لا يمكن القبول به وسط صفٍ يكافح ويقدّم الدماء فداءً للوطن ولزملائه.
القاضي فارس باقطيان، رئيس المحكمة العسكرية للمنطقة الثانية بالمكلا، حين أصدر حكمه بالفصل من الخدمة لأول مرة في مثل هذه الأحكام، لم يفعل ذلك تعسفًا ولا انتقامًا.. بل فعل ذلك ليؤكد مبدأً جوهريًا: أن خدمة السلاح ليست مجرد رتبة ولباس، بل عهدٌ ومسؤولية، فالجنود الشرفاء الذين يسقطون ويضحون يستحقون أن تكون صفوفهم نظيفة من من يبيع ضميره بثمنٍ بخس، ومن يسهّل انهياراً قد يكلف حياة الآخرين غدًا أو يكشف تحركات ومواقع حساسة قبل أي اشتباك.
لا يعني تطبيق العقوبة القاسية طمسًا للإنسانية أو تجاهلاً لظروف معينة؛ بل هو رسالة واضحة: هناك خطوط حمراء لا تُمس، ومسؤوليات لا تُستبدل.. إذا سُمِحت لنفسٍ أن تنقض على ما يجب أن يحفظه أمام أعين زملائه والدماء تسيل، فكيف يمكن أن يثق الرفاق به في لحظات المصير؟ كيف يطمئن القائد إلى أن من بين صفوفه من لا يتورع عن خيانة الأمانة؟ القضاء هنا لم يعاقب ليكون فظًّا، بل ليحمي — ليحمي الجنود الشرفاء الذين يضحون، وليضمن أن لا يمر فعلٌ يفضي إلى تضليل العدالة دون مساءلة.
إلى الجنود الشرفاء أقول: ثِقوا بنظام العدالة، إن المحاكم، رغم قسوتها أحيانًا، هي الضامن لحقوقكم ولحق الزميل الذي سقط.. المحاسبة لا تضعف العسكر، بل تقوي منظومة الأمن والاحتراف؛ إذ إن صفًا منظّمًا تُحذف منه شوائب الخسة أفضل من صفٍ يعجُّ بالشكوك والاتهامات. الثقة تُبنى بالمحاسبة العادلة والعلنية، وبإجراءاتٍ شفافةٍ تحمي المصلحة العامة وتُظهر أن لا أحد فوق القانون.
إلى من فقدوا رفيقهم: لا ينسينا الحزن واجبنا الوطني، ولا يُذهب واجبنا الإنساني، لكن العدالة — التي قد تتأخر أحيانًا لكنها لا تُلبث أن تظهر — ستقف إلى جانب الشرفاء.. الحكم بالفصل لم يكن نكايةً بل وقاية: وقايةٌ من وجود عنصرٍ قد يخذل في أسوأ اللحظات، ويعطي العدو لمحاتٍ ثمينة عن ضعفنا.
خلاصة القول: الشرف العسكري لا يُقاس بوقفة أمام العدو فحسب، بل يُقاس أيضًا بكيفية حماية الواجبات الصغيرة والكبيرة داخل الصف.. من يحترم الواجبات يحفظ الدماء ويصون الأسرار. ومن يخونها أو يستخف بها، فالمجتمع العسكري وما يحمله من قيم لن يتسامح معه.. القضاء هنا قدّم درسًا: أن حماية الجنود الشرفاء واجب، وأن العدالة لغيرتها سلاحٌ آخر في معركة الكرامة.
فلنستمر في التضامن، ولنحافظ على صفٍ نقيٍّ يُحتذى به، ولنؤمن أن من يضع يده على الزناد من أجل الوطن يستحق أن ينام وهو مطمئن بأن نظامًا عادلاً يقف إلى جانبه، يقوّي مناعته ويطهر صفوفه من كل من يسيء إليه ويلمّ به.
اكتشاف المزيد من الصحيفة القضائية |
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
لا تعليق