القاضي / عزالدين بن أمين الأموي
لقد وضحنا في الحلقة الأولى الفرق بين الكتابة والمحرر الإلكتروني؛ وكذلك بينا شرعية العقود المبرمة إلكترونيًا أو الموجهة بطريقة إلكترونية وحجيتها في الإثبات. وتوصلنا إلى أن المشرّع كان واضحًا وصريحًا في جواز هذا النوع من التعاقدات؛ ومنحها الحجية وفقًا للمادتين (9-10) من قانون أنظمة الدفع والعمليات المالية والمصرفية الإلكترونية رقم (40) لسنة 2006، ونصَّ المادة (154) من القانون المدني رقم 14 لسنة 2002. ونختم الموضوع في هذه الحلقة بالتطرق لحدود حجية المحررات الإلكترونية في الإثبات، ونقاش مسألة التعارض بينها وبين المحررات التقليدية، ودور القاضي في الترجيح بينهما.
أولًا: حدود حجية المحررات الإلكترونية في الإثبات
لقد نظمت مختلف النصوص الدولية والتشريعات العربية حجية المحررات الإلكترونية بما يتناسب مع نوعية التعامل، فأجاز بعضها الرسمية في العقود الإلكترونية، إلى جانب الصيغة العرفية، إلا أن طبيعة بعض العقود وطبيعة المتعاقد عليه محل المعاملة، فرضت وضع بعض الحدود نظرًا لاعتبارات معينة تتعلق بحساسية التصرّف في بعض السلع والخدمات.
رغم التقدم الكبير في المجال الرقمي والتنظيم الإلكتروني للمعاملات والتجارة الإلكترونية في الدول الغربية التي كانت سباقة في هذا المجال، حيث شهدت نقلة نوعية في تشريع القوانين والتشريعات المنظمة لإبرام المعاملات والعقود، إلا أنها، لطبيعة بعض المعاملات والعقود، استثنتها من الإبرام في الشكل الإلكتروني، ونفت صحة وحجية إبرامها.
بالنسبة للمشرّع اليمني، فقد جعل نطاق تطبيق قانون أنظمة الدفع والعمليات المالية والمصرفية الإلكترونية رقم (40) لسنة 2006 نطاقًا واسعًا، إذ نصَّت المادة (4) على أنه: “أ- يسري هذا القانون – وبما لا يتعارض مع أحكام قانون الاتصالات السلكية واللاسلكية – على جميع المعاملات التي تتناولها أحكامه وعلى وجه الخصوص ما يلي: 1- أنظمة الدفع الإلكترونية، وسائر العمليات المالية والمصرفية التي تنفذ بوسائل إلكترونية. 2- رسائل البيانات والمعلومات الإلكترونية وتبادلها، والسجلات الإلكترونية. 3- التوقيع الإلكتروني، والترميز والتوثيق الإلكتروني. 4- المعاملات التي يتفق أطرافها صراحةً أو ضمنًا على تنفيذها بوسائل إلكترونية ما لم يرد فيه نصٌّ صريحٌ يقضي بغير ذلك. 5- لا يُعدُّ الاتفاق بين أطراف معينة على إجراء معاملات محددة بوسائل إلكترونية ملزمًا لهم لإجراء معاملات أخرى بهذه الوسائل”.
وأجازت المادة (9/1) من ذات القانون الإثبات في القضايا المصرفية بجميع طرق الإثبات، بما في ذلك البيانات الإلكترونية أو البيانات الصادرة عن أجهزة الحاسب الآلي أو مراسلات أجهزة التلكس أو الفاكس أو غير ذلك من الأجهزة المشابهة.
وكذلك نصَّت المادة (10) من القانون ذاته على أنه: “يكون للسجل الإلكتروني والعقد الإلكتروني ورسالة البيانات والمعلومات الإلكترونية والتوقيع الإلكتروني الآثار القانونية نفسها المترتبة على الوثائق والمستندات والتوقيعات الخطية من حيث إلزامها لأطرافها أو حجيتها في الإثبات”.
ومن وجهة نظرنا، لئن كان نطاق تطبيق القانون واسعًا كما نصَّت المادة (4)، إلا أنه، كما يتبين من تسميته، يظل متعلقًا بالمعاملات المالية والمصرفية. بمعنى آخر، لا يمكن تطبيقه على بعض العقود والمعاملات الخاصة، والتي نأمل من المشرّع اليمني أن يحذو حذو التشريعات التي اتجهت إلى استثناء بعض المعاملات بصفة خاصة من التعامل الإلكتروني، وأجمعت على عدم جواز إبرام بعض المعاملات والعقود وتنظيمها، وخاصة عقود ومعاملات الأحوال الشخصية والعقود والمعاملات العينية الواردة على الأوعية العقارية. وهو أمر مقبول وعملي نظرًا لحساسية هذه العقود، ولاسيما العقود والمعاملات الخاصة بالأحوال الشخصية مثل الزواج والطلاق، فهذه العقود يترتب عليها حقوق والتزامات تمس بثوابت الدول والمجتمعات والحياة الشخصية للفرد الذي هو محور دائرة الحقوق. فإعمال الشكل الإلكتروني في مثل هذه المسائل قد تنتج عنه مسائل خطيرة قد تؤدي إلى المساس بمصداقية هذه الروابط الاجتماعية. كما أن أحكام معاملات العقار وما لها من ثقل قانوني في تشريعات الدول، حيث إن جل التشريعات اشترطت لها الصفة الرسمية في العقود حفاظًا على الملكية وحقوق الانتفاع من الضياع.
ثانيًا: التعارض بين المحررات الإلكترونية والتقليدية ودور القاضي في الترجيح بينهما
بخصوص التعارض بين المحررات الإلكترونية والتقليدية، قد يحدث أن يتعارض محرر إلكتروني مع محرر ورقي، مقدمين بمثابة دليلين أمام القضاء لتصرّف قانوني أو واقعة واحدة في المضمون. فيحتوي المحرر الإلكتروني على بيانات ووقائع معينة، في حين يحتوي المحرر الورقي أو التقليدي على مضمون مختلف. ففرق الفقه في هذه المسألة بين ثلاثة حالات: الأولى: حالة التعارض بين محرر عرفي إلكتروني مؤمن ومحرر عرفي تقليدي. الثانية: التعارض بين محرر عرفي إلكتروني مؤمن ومحرر رسمي. الثالثة: التعارض بين محرر رسمي إلكتروني ومحرر عرفي إلكتروني موقع توقيعًا مؤمنًا. والسؤال الذي يطرح أيضًا هو ما دور القاضي في التفاضل أو الترجيح بين المحررات الإلكترونية والتقليدية؟ نتناول ذلك كالآتي:
التعارض بين محرر عرفي إلكتروني مؤمن ومحرر عرفي تقليدي
يتميز المحرر الإلكتروني الموقّع توقيعًا مؤمنًا، بقرينة تفيد بصحة مضمونه والتواقيع، وذلك بما يضيفه التوقيع المؤمّن أو المعزز من ثقة وأمان، مما يجعل المتمسك به محررًا من إثبات سلامته المادية. أما المحرر التقليدي فلا يوفر هذه الثقة وهذه الضمانات، إذ إنه حرر ووقع من أطراف العلاقة دون توثيقه من طرف موظف عمومي، وتنتفي حجيته بإنكاره ممن وقّع عليه أو كان له يد فيه. وعليه، ومن ظاهر المقارنة، ترجح كفة المحرر الإلكتروني المؤمن.
إلا أن أغلب التشريعات، ساوت بين حجية المحرر الموقّع توقيعًا موصوفًا والمحضر العرفي التقليدي، رغم الشروط الصارمة التي أقرتها هذه التشريعات للاعتراف بالتوقيع الإلكتروني المؤمن. ويرى بعض الباحثين أن ذلك إنقاصًا من قيمة الضمانات التي تعهد للتوقيع الإلكتروني المؤمن.
ومن وجهة نظرنا، نرى أن اتجاه التشريعات إلى المساواة بين المحرر العرفي الموقّع توقيعًا مؤمنًا والمحرر العرفي الورقي، ربما مرده إلى أن طبيعة مجلس العقد في المحرر الإلكتروني تؤثر بطريقة مباشرة في حجيته.
بالنسبة للتعارض بين محرر عرفي إلكتروني مؤمن ومحرر رسمي:
في هذه الحالة، لا جدال في حجية المحرر الرسمي لما يتمتع به من قوة ثبوتية في الإثبات لإبرامه أمام موظف عمومي يوثق كل التصرفات التي تضمنها المحرر أو ما تمت على يديه. لذا اعتمدته التشريعات واشترطته لبعض المعاملات والعقود لطبيعتها الخاصة وتأثيرها في الحقوق، فحجية المحرر الرسمي لا يمكن إنكارها إلا بالطعن بالتزوير، بخلاف المحرر العرفي الإلكتروني المؤمن والذي تسقط حجته بإنكار أحد أطراف العلاقة.
بالنسبة للتعارض بين محرر رسمي إلكتروني ومحرر عرفي إلكتروني موقع توقيعًا مؤمنًا:
حجية المحرر الرسمي، أي كانت الدعامة المنشئ عليها، حجية كاملة، باعتراف التشريعات والفقه والقضاء، إلا أن المحرر الرسمي الإلكتروني المؤمن، والموقع توقيعًا إلكترونيًا مؤمنًا حسب الشروط والضوابط الفنية التي نصَّت عليها أغلب التشريعات، يكتسب كذلك حجية قوية في الإثبات ترشحه ليكون أقوى حجية من المحرر الرسمي الورقي.
إلا أن المحرر الرسمي الورقي المستوفي الشروط القانونية، وخاصة الحضور المادي للموظف العمومي والأطراف في مجلس عقد واحد، قرينة قاطعة على حجته الكاملة والتي لا يدحضها إلا الطعن بالتزوير، والذي يثبت الإرادة الحرة لإبرام التصرّف. لذا لا يمكن تصور تفضيل للمحرر الإلكتروني الذي تم عن بعد في غير مجلس عقد واحد، بل الأصح مساواتهما في الحجية.
بخصوص دور القاضي في الترجيح بين المحررات الإلكترونية والتقليدية:
لقد عالج المشرّع الفرنسي هذا الإشكال وذلك في المادة 1368 من القانون المدني، وذلك بأن للأطراف الاتفاق على اعتماد الدليل المراد الاحتجاج به، أو ترجيحه إذا لم يوجد نص ينظم ذلك، على أساس أن القواعد الموضوعية للإثبات ليست من النظام العام، ويجوز الاتفاق على مخالفته. وفي حالة عدم وجود اتفاق بين الطرفين بخصوص هذا الشأن، فللقاضي السلطة التقديرية في ترجيح أحد الأدلة، مراعيًا في ذلك صحة الدليل ومصداقيته واكتمال عناصره.
- بالنسبة للاتفاق المسبق بين الطرفين على ترجيح دليل معين، قد لا يثق الأطراف في العلاقة المبرمة عبر الوسيط الإلكتروني، فيلجؤون إلى اتفاقات مسبقة حول مدى حجية المحرر الإلكتروني، وما هو نوع الأدلة المقبولة في الإثبات في حالة حدوث نزاع، بغض النظر عن قيمة التصرّف المتنازع بشأنه. كما يمكن أن يمتد أثر الاتفاق إلى تحديد قيمة الدليل المتفق عليه وحجيته، وما إذا كان يُعدُّ بالنسبة لهم دليلًا كاملًا، أم يحتاج إلى تكملته بأدلة أخرى. كما قد يكون موضوع الاتفاق أيضًا عبء إثبات الالتزام، أي التحديد المسبق لمن يقع عليه عبء إثبات التصرّف، فينقل من الطرف الذي يقع عليه عبء الإثبات قانونًا، إلى الطرف الآخر.
- أما عن السلطة التقديرية للقاضي في ترجيح أحد الأدلة، يمكننا القول إن وجود اتفاق مسبق بين الأطراف على ترجيح أحد الأدلة في الإثبات، لا يعني أن ينتفي دور القاضي، بل للقاضي سلطة واسعة في تقدير مدى صحة هذه الاتفاقات، فلا يجوز الاتفاق على مسائل فصل فيها بنص القانون، فمثلًا لا يمكن للأطراف الاتفاق على مجرد إنكار محرر رسمي لا يجوز الطعن فيه إلا بالتزوير. وأيضًا لا يمكن الاتفاق على إثبات معاملة اشترط فيها القانون الرسمية بمحرر عرفي، فللقاضي مراعاة عدم تجاوز القانون في مثل هذه الاتفاقات. كما أن القاضي يتأكد من توافر الدليل المتفق عليه على الشروط القانونية ومدى اكتمال صحته ليكون بمثابة دليل كتابي كامل، فلا يجوز الاتفاق على ترجيح دليل كتابي غير مستوفي الشروط على دليل كتابي مستوفي الشروط.
وفي حالة عدم وجود اتفاق بين الطرفين على ترجيح أحد الأدلة الكتابية المتعارضة، وكان كل منهما مستوفي شروط الدليل الكتابي الكامل، فللقاضي أن يرجح الدليل الأكثر مصداقية ووضوحًا والأكثر تبيانًا للحقيقة.
انتهى… ونسأل الله التوفيق والسداد وتحقيق المراد للجميع.
قاضٍ متخصص في القانون الرقمي والأمن السيبراني
اكتشاف المزيد من الصحيفة القضائية |
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.


لا تعليق