الأساس القانوني لإرجاع الحالة إلى ما كانت عليه في جرائم التعدي على الحيازة العقارية (2-3)


القاضي عبدالفتاح القميري


اختلفت آراء الفقه القانوني في الطبيعة، أو الأساس القانوني، لإرجاع الوضع إلى حاله، فذهب رأي إلى أن ذلك يُعدُّ من ضمن التعويضات التي يحكم بها لفائدة المتضرر من فعل انتزاع الحيازة، وهو في هذا الصدد يقسم التعويض المستحق للضحية في جريمة الاعتداء على الحيازة العقارية إلى نوعين: تعويض نقدي، وتعويض عيني.

فأما التعويض النقدي فهو المبلغ المالي الذي يستحقه المتضرر جبرًا لما حصل له جراء حرمانه من حيازة أرضه، وما خلفه هذا الحرمان من ضرر مادي وضرر معنوي.

وأما التعويض العيني فهو الذي يتجلى في تمكينه من حيازة العقار المعتدى عليه، وإعادة وضع يده عليه بصورة مادية وفعلية.

ويترتب على اعتبار إرجاع الوضع إلى حاله تعويضًا مدنيًا ما يلي:
أ– أن يتم تقديم طلب إرجاع الوضع إلى حاله في إطار الدعوى المدنية التابعة وفقًا للقواعد المنظمة لهذه الأخيرة شكلًا وموضوعًا، أو في إطار الدعوى المدنية المستقلة بعد ثبوت الحكم القضائي بالإدانة، وذلك وفقًا لما تقتضيه قواعد المسؤولية التقصيرية.
ب– أن يتم تقديم طلب إرجاع الوضع إلى حاله من طرف المتضرر صاحب المصلحة، أو من ينوب عنه، فلا تتدخل المحكمة من تلقاء نفسها في هذا الشأن.
ج– لا يمكن للمحكمة أن تقضي بإرجاع الوضع إلى حاله من تلقاء نفسها، ذلك أنه لا يُعدُّ، والحالة هذه، من النظام العام، بل يبقى من قبيل الحق الشخصي الذي يستقل به المتضرر، ويقع عليه وحده عبء المطالبة به مع ما يلزم في ذلك من شروط شكلية وموضوعية، ويكون حكم المحكمة القاضي بإرجاع الوضع إلى حاله دون أن يتم طلبه من صاحب المصلحة باطلًا؛ لأنها تكون قد قضت بما لا يطلبه الخصوم.


وبالوقوف على هذا الرأي يمكن إبداء الملاحظات الآتية:
أ– إن هذا الرأي لا يفي بالهدف الذي توخاه المشرِّع لحماية الحائز الفعلي للعقار، وذلك بإبقاء الحيازة تحت يده إلى أن تبت المحكمة المختصة في جوهر الحق ملكًا وحيازة. ويكتسي ذلك بصبغة أمنية أساسها الحفاظ على الوضع على النحو الذي كان عليه قبل انتزاع الحيازة، وعلى هذا الأساس فإن إدانة المتهم من أجل جريمة انتزاع عقار من حيازة غيره، دون إرجاع الوضع إلى حاله، لعلة أن المتضرر لم يطلب هذا الإرجاع يُنقص من فعالية النصوص القانونية التي تجرم الاعتداء على الحيازة، ولا يحقق ذلك الأمن المطلوب، والمتجلي في إبقاء الحيازة بيد المتضرر.
ب– إن هذا الرأي ينتقص من الردع الذي يتوجب تحققّه من كل عقوبة زجرية عن فعل جرمي ما؛ فمن المعلوم أن لكل عقوبة أثرًا على المدان، وأثرًا على العامة، وبمعنى آخر أن العقوبة الزجرية تهدف في مجملها إلى تحقيق الردع الخاص الذي يتجلى في تقويم الفاعل، وإرجاعه إلى جادة الطريق، والردع العام الذي يتجلى في إنذار الآخرين بأن من أقدم على مثل ما أدين من أجله المتهم سيتعرض للعقاب نفسه. فإذا كان هذا هو الهدف المتوخى من كل عقوبة، فإن الاقتصار في تطبيق النصوص القانونية على العقوبة الحبسية والمالية دون إرجاع الوضع إلى حاله يجعل الردع العام شبه منعدم، فعن طريق إرجاع الوضع إلى حاله، وذلك بطرد المتهم المدان من العقار الذي احتله، تصل إلى علم الجمهور حقيقة الحكم الصادر في النزاع، ويتحقق الردع العام المتوخى من العقوبة المطبقة على الفاعل، أما إذا قضى هذا الأخير العقوبة الحبسية وأدى الغرامة المالية، وظل محتلًا للعقار، فإن ذلك لا يُغير في الواقع شيئًا، ولا يتحقق الردع المطلوب بوصفه العام حتى لدى جيران العقار، وقد يبدو الحكم أقل فعالية في تحقيق هذا الردع في حالة عدم تنفيذ عقوبة الحبس لعلة وقف هذا التنفيذ بمقتضى الحكم الصادر في الموضوع.
ج– إن هذا الرأي لا يحقق الاستعجال المطلوب في الآثار المترتبة عن أحكام القضاء في حيز الواقع، فعدم الحكم بإرجاع الوضع إلى حاله لعدم المطالبة به من طرف المتضرر يضطر معه هذا الأخير إلى الانتظار إلى حين انتهاء الدعوى العامة، ليطالب بحقه في استرجاع حيازته أمام المحكمة المدنية، وهو في ذلك ينتظر وقتًا طويلًا، فلا يطالب بحقه إلّا بعد استنفاد الدعوى العامة لطرق الطعن، ولا يسترد هذا الحق فعليًا إلّا بعد قطع الدعوى المدنية لكل مراحلها، وفي هذا الوقت يظل محرومًا من حيازته، بينما يظل المتهم مستوليًا عليها منتفعًا بها حتى بعد إدانته، مستفيدًا في ذلك من بطء الإجراءات وطولها، هكذا يموت الاستعجال المتوخى من تطبيق تلك النصوص القانونية، ويغيب المغزى الأمني المترتب عنها.

أما الرأي الآخر فيقول: إن إرجاع الحال إلى ما كان عليه يدخل ضمن الرد الذي يجب الحكم به، ولو دون طلب، بعدّه من العقوبة الزجرية الصادرة في جريمة انتزاع عقار من حيازة صاحبه، فعلى الرغم من أن النصوص القانونية التي تحمي الحيازة لا تنص على إرجاع الوضع إلى حاله بصفته تدبيرًا مكملًا للعقوبة الحبسية والمالية، فإن القواعد العامة تفرض ذلك، ويترتب عن هذا الرأي ما يلي:
أ– إن إرجاع الوضع إلى حاله يخضع لمقتضيات الدعوى العامة، ومن ثم فإنه يرتبط بصورة وثيقة بالنظام العام.
ب– عدّه من النظام العام يُعطي المحكمة الحق في الحكم به، ولو لم يطلبه المتضرر أو النيابة العامة.
ج– إن المحكمة مطالبة بالحكم به، كلما توافرت الشروط الضرورية – تحت طائلة تبرير قرار الرفض – لذلك إذا تم رفضه فيتعين تبرير ذلك بقرار معلل بأسباب تبين لماذا تم رفض هذا التدبير.
والملاحظ من هذا الرأي أنه يسد نقصًا حاصلًا في النصوص القانونية التي تحمي الحيازة، لذا كان من اللازم النص فيها على إرجاع الوضع إلى حاله صراحةً، ثم إنه ينسجم مع الهدف الذي شُرّعت من أجله تلك النصوص، والمتمثل في حماية الحائز الفعلي للعقار، وذلك يقتضي رد الحيازة إلى صاحبها كلما ثبت أنها انتزعت منه عن طريق فعل إجرامي.

أما رأي القضاء فأنه وبالرجوع إلى العمل القضائي في اليمن، وبناء على الأحكام القضائية التي وقفت عليها، وهي كثيرة، نجد أنها قضت بإعادة الحال إلى ما كان عليه في جرائم التعدي على الحيازة العقارية، ولكن ضمن الحق المدني (الحق الخاص)، ولم أقف إلّا على حكم واحد منها فقط قضى برد الحال ضمن العقوبة بالحق العام.

وما استقر عليه العمل القضائي في الجزائر أن الحكم الذي تصدره المحكمة الجزائية في جريمة التعدي على الحيازة العقارية يتضمن إما البراءة أو الإدانة فقط.

وبالرجوع إلى العمل القضائي المغربي نجد أن محاكم الموضوع قد اختلفت فترة من الزمن ما إذا كان يحق لها أن تحكم بإرجاع الحيازة إلى صاحبها أم لا، وذلك لأن الفصل (105) من القانون الجنائي المغربي لا يعطي الحق للمحاكم للبت إلّا في الدعوى العمومية وما يتعلق بها من مصاريف ورد وتعويضات على أساس أن إرجاع الحالة إلى ما كانت عليه لا يندرج ضمن أي من الأوامر المذكورة.

غير أن أحكامًا أخرى صدرت مقررة أن إرجاع الحالة إلى ما كانت عليه يُعدُّ من صميم النظام العام الذي تقضي به المحكمة من غير طلب بذلك؛ لارتباطه بالعقوبة الحبسية والغرامة المنصوص عليها في الفصل (570) من القانون الجنائي المغربي.

فهذا التذبذب في مواقف محاكم الموضوع يمسُّ من الناحية العملية بحقوق الطرف المتضرر بحيث تصبح رحمة الهيئة وسلطتاها التقديرية في التكييف الذي ترتئيه مناسبًا لحكم إرجاع الحالة إلى ما كانت عليه، الأمر الذي يجعلنا نؤكد على ضرورة الحسم التشريعي في هذه المسألة بدلًا من تركها مثار جدال بين الفقه والقضاء.

أما محكمة النقض المغربية فقد عرفت قراراتها التردد نفسه، إذ جاء في بعض القرارات بأنه لا يُحكم بإرجاع الحالة برد الحيازة إلى صاحبها إلّا ضمن طلب مدني.

غير أنه في قرارات لاحقة لمحكمة النقض نجدها بدأت تنحو نحو عدّ الحكم بإرجاع الحالة إلى ما كانت عليه من اختصاص القضاء الزجري الذي يقضي به تلقائيًا دون الحاجة إلى طلبه.

ويتضح من ذلك أن القضاء المغربي وقف مؤخرًا موقفًا صريحًا من المسألة، بأن جعل إرجاع الوضع إلى حاله يدخل ضمن الرد، وهو تدبير تقتضيه الحماية اللازمة للحيازة العقارية، حسب نص الفصل (570) من القانون الجنائي المغربي، ويُعدُّ هذه الاتجاه أسلم؛ إذ بمقتضاه تتحقق غاية المشرّع من وراء تطبيق الفصل (570)؛ لأن المشرِّع هدف إلى تحقيق مسألة أمنية، قوامها الحفاظ على الوضع، وإبقاء ما كان إلى حين فصل المحكمة المختصة في أصل الحق ملكًا وحيازةً.

وعلى الرغم من ذلك فجل المحاكم المغربية تقريبًا مازالت تُعدُّ إرجاع الحال إلى ما كان عليه جزءًا من الدعوى المدنية التابعة، ولا تحكم به إلّا بعد أن يطلبه المطالب بالحق المدني.

ونستنتج مما سبق أن الهدف من دعوى إرجاع الحالة إلى ما كانت عليه هو واحد يتجلى في استرداد المتضرر للحيازة المنتزعة بفعل الاعتداء، مما يجعلنا نرجح أن يتبع المتضرر الإجراء الأسهل في نظره لاستيفاء حقه، مادام الأمر لا يتعلق بالفصل في جوهر الحق، وإنما يرمي المحافظة، وصيانة وضع قائم إلى حين الفصل في الموضوع، فغياب نص صريح يفصِّل، ويحدِّد الإجراءات المتبعة بشكل واضح لممارسة دعوى الإرجاع يسمح بتعدد كل التكييفات السابقة الذكر وظهورها.

وإن أسهل إجراءات يمكن للمتضرر اللجوء إليها هي تلك التي يعتمد في تطبيقها على كون إرجاع الحالة إلى ما كانت عليه جزءًا من الدعوى العامة، تختصُّ بها المحكمة الجزائية دون سواها، لما فيها من سرعة وليونة لتفادي تعقيدات، وكثرة شروط الإجراءات المدنية بخصوص استرداد الحيازة واستيفاء التعويض.

ونختم بالقول بأن الأمر لا يقف عند هذا التضارب القانوني بإرجاع الحالة إلى ما كانت عليه، بل يتعداه أيضًا إلى إشكالات وصعوبات تواجه عملية التنفيذ، وسيتم تناولها في مقال آخر بإذن الله.

*وكيل النيابة الجزائية المتخصصة بتعز


اكتشاف المزيد من الصحيفة القضائية |

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

لا تعليق

اترك رد