القاضي عبد العليم مهيوب المليكي
إن الدعوى الإدارية أو المنازعات الإدارية باعتبارها دعوى ومنازعات إدارية قضائية بحته في طبيعتها ونظامها القانوني وفي أهدافها ووظائفها، لابد أن تختص بعملية النظر والفصل فيها سلطات قضائية بحتة، ويجب أن تتم عملية النظر والفصل في الدعوى الإدارية والمنازعات الإدارية في نطاق نظام قانوني قضائي شكلياً وإجرائياً وموضوعياً، إلا أن ممارسة الرقابة القضائية على أعمال الإدارة تختلف باختلاف طبيعة النظام القضائي المختص بعملية النظر والفصل والمنازعات الإدارية.
ونظرًا لاختلاف طبيعة النشاط الإداري عن طبيعة النشاط الفردي، والمصالح العامة عن المصالح الفردية، وبالتالي اختلاف طبيعة المنازعات الإدارية عن المنازعات المدنية، فإن الأمر يتطلب إنشاء قضاء إداري متخصص ومستقل للفصل في المنازعات الإدارية، وفقاً لقواعد القانون الإداري تكون قواعد قانونية متميزة ومستقلة عن قواعد القانون الخاص.
ورغم أن فكرة ازدواجية القضاء ظهرت في فرنسا إلا أنها لم تعد في الوقت الحاضر مقتصرة عليها، بل تبنت هذه الفكرة دول كثيرة غيرها كبلجيكا وإيطاليا ومصر وتونس ولبنان، حيث رأت هذه الدول في القضاء المزدوج الأسلوب الأمثل لتحقيق الموازنة بين المصالح العامة التي تمثلها الإدارة، وبين حقوق وحريات الأفراد. أما الدول التي تأخذ بنظام القضاء الموحد فإنها أدخلت تعديلاً جوهرياً على نظامها القضائي، فأوجدت محاكم إدارية أو دوائر إدارية ضمن هيكل القضاء العادي لكي تختص بالفصل بالمنازعات الإدارية وفق قواعد القانون الإداري، بعد أن أدركت خصوصية منازعات الإدارة. ومن هذه الدول إنجلترا وأمريكا والكويت وليبيا. ومع أهمية وجود جهة قضائية متخصصة بالفصل بالمنازعات الإدارية إلا أن هناك دولاً أخرى لازالت تأخذ بوحدة النظام القضائي، ولم تدخل أية تعديلات عليه رغم أنها أخذت تطبق قواعد القانون الإداري على المنازعات الإدارية، ومن هذه الدول السعودية والسودان واليمن.
ويعتبر النظام القضائي في الجمهورية اليمنية من أنظمة القضاء الموحد – حيث نصت على وحدة القضاء المادة (150) من دستور الجمهورية اليمنية والتي نصت على أنه: (القضاء وحدة متكاملة ويرتب القانون الجهات القضائية ودرجاتها ويحدد اختصاصاتها كما يحدد الشروط الواجب توفرها فيمن يتولى القضاء وشروط وإجراءات تعيين القضاة ونقلهم وترقيتهم والضمانات الأخرى الخاصة بهم ولا يجوز إنشاء محاكم استثنائية بأي حال من الأحوال.( وكذا نصت على ذلك المادة (153/د) منه على أنه: (المحكمة العليا للجمهورية هي أعلى هيئة قضائية ويحدد القانون كيفية تشكيلها ويبين اختصاصاتها والإجراءات التي تتبع أمامها وتمارس على وجه الخصوص في مجال القضاء ما يلي :ـ د- الفصل في الطعون في الأحكام النهائية وذلك في القضايا المدنية والتجارية والجنائية والأحوال الشخصية والمنازعات الإدارية والدعاوى التأديبية وفقاً للقانون(. وكذا نصت على وحدة القضاء المادة (9) والمادة (47) من القانون رقم (1) لسنة 1991م بشأن السلطة القضائية، حيث نصت المادة (9) على أنه: (المحاكم هي الجهات القضائية التي تختص بالفصل في جميع المنازعات والجرائم، ويبين القانون الاختصاص النوعي والمكاني للمحاكم)، ونصت المادة (47) منه على أنه: (تكون للمحكمة الابتدائية الولاية العامة للنظر في جميع القضايا)- وهذا النظام له الولاية في رقابة المشروعية والملائمة معاً، وله حق توجيه أوامر إلى جهة الإدارة, لذلك نجد أن المحاكم الابتدائية لها الولاية العامة في نظر جميع القضايا الإدارية، وغيرها، وهي تباشر هذا الاختصاص استناداً إلى أحكام المواد (9-47) من قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة 1991م، التي تخول المحاكم الابتدائية النظر في جميع القضايا على اختلافها، ونجد أن هذه المحاكم غير ملتزمة بمراقبة مبدأ المشروعية فقط، بل تراقب الملائمة وتصدر أوامر ضد الإدارة، وغير ذلك مما هو في صميم أعمال الإدارة.
وإذا كانت فلسفة النظام القضائي في الجمهورية اليمنية تقوم على وجود هيئة قضائية واحدة تختص بالفصل في كافة المنازعات، وتطبق قواعد قانونية واحدة إلا أنها ومنذ وقت قريب بدأت تخرج عن إطار كل من النظامين القانوني والقضائي الموحد المعروف في صورته التقليدية.
إلا أن ذلك الوضع الذي استقرت عليه اليمن بدأ يتغير خاصة بعد تطور وظيفة الدولة المعاصرة واتجاهها نحو سياسة التدخل وتوجيه الاقتصاد وإدارته. ونتيجة لذلك، فقد أُنشِئت في اليمن لأول مرة محاكم نوعية متخصصة أطلق عليها المحاكم الإدارية، إلا أنها قد نشأت بموجب قرار وليس بقانون، ويقتصر اختصاصها على المنازعات الناشئة عن تطبيق القوانين أو اللوائح والتي تكون الإدارة طرفاً فيها. بالإضافة أنها لم تتعد في نطاق اختصاصها المكاني سوى محافظتين فقط.
لذلك نوصي المشرع اليمني إذا لم يكُ في وسعه إنشاء قضاء إداري متكامل، أن ينشئ دوائر متخصصة في كل المحاكم على اختلاف درجاتها، نظراً لما لهذا القضاء من أهمية عظمى في الحياة العملية كونه يحمي حقوق وحريات الأفراد، وأن يعد لذلك قضاة متخصصون في المسائل الدقيقة، كي يقومون بالواجب الملقى على عاتقهم في حماية حقوق وحريات الأفراد.
وتكمن أهمية التخصص نظراً لتشعب القانون إذ أنه: ينقسم إلى عام وخاص، وكل قسم ينقسم بدوره إلى فروع كثيرة ومتنوعة وكل فرع يحتوي على سيل من النصوص والأحكام، فإنّ الإحاطة الشاملة والدقيقة بكل هذه الأقسام والفروع تعد ضربا من ضروب المستحيل خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار حركة النصوص المستمرة وحركة الاجتهاد القضائي. وحسبنا الإشارة أنّنا نعيش اليوم في زمن الدقّة والتخصّص. فمن اهتم بخلية واحدة من العلم والمعرفة زاد تمكّنه فيها وتمرسه عليها وصح اجتهاده وكان النّجاح حليفه. وعليه نؤكد في بداية الأمر أن إلمام القاضي بكل النّصوص وتحكمه في فروع القانون وشعبه المختلفة بما تحمله هذه الفروع من اختلافات كثيرة وتباين في الأحكام، مسألة لا يمكن أن تتحقق في الواقع العملي. ولا يمكن للقاضي أن يكون دائرة معارف واسعة يعلم كل صغيرة وكبيرة في علم القانون الواسع والمتشعّب والممتد لأن ذلك لا يمكن أن يخطر ببال عاقل ولأنّ القاضي بشر وله طاقة محدودة كغيره من الناس ولا يمكن أن نثقل عليه مالا تتحمّله إرادة البشر. وما قيل عن القضاء يقال عن فقه القانون، فالفقيه المهتم بالقانون الدولي العام، نظرياته ودراسته يغنيه اهتمامه هذا على أن يصرف الهمة لنوع آخر من الدراسات. والفقيه المهتم بالقانون الإداري يختص بهذا النوع من الفقه فيتعمق في نظرياته ويبحر في أحكامه ومبادئه وهكذا. وبالنتيجة فإنّ تخصّص القاضي في قسم معين من القضاء مسألة تساعد القاضي نفسه على التعمّق أكثر في فرع محدّد دقيق من المنازعات بما يكسبه تأهيلاً كبيراً بحكم تعوده على النّظر في نوع معين من النصوص، وتعمقه في الدراسات الفقهية واجتهادات القضاء التي تحيط بموضوع تخصصه.
ومن جهة أخرى، لا يمكن اعتبار تلك المحاكم هيكلاً قضائياً مستقلاً وموازياً لمحاكم الشريعة العامة بحيث يمكن القول إنها حولت النظام القضائي في اليمن من القضاء الموحد إلى القضاء المزدوج. ذلك أن هذه المحاكم تفتقر إلى التجانس وإلى هيكل تنظيمي متكامل يساعد على بلورة نظام قضائي مزدوج.
ونخلص من ذلك، أن إنشاء محاكم إدارية متخصصة للفصل فيما ينشأ من خصومات ومنازعات تتعلق بالروابط الإدارية يؤكد أن النظام القضائي في اليمن بدأ يتبنى عند الفصل في المنازعات الإدارية فكرة ثنائية القانون وازدواجية القضاء، حتى وإن لم يصل الأمر بعد إلى خروج اليمن من دائرة دول وحدة القانون والقضاء إلى دائرة ازدواجية القانون والقضاء المعروفة في فرنسا أو في مصر، وذلك لأن أحكام المحاكم الإدارية لا تزال تخضع للطعن أمام محاكم القضاء العادي.
بالإضافة إلى أن قرار مجلس القضاء الأعلى رقم (177) الصادر بتاريخ 11/10/2010م، الخاص بشأن إنشاء محكمتين إداريتين في كل من أمانة العاصمة ومحافظة عدن وهي محاكم ابتدائية متخصصة. والتي لم تتعدي محافظتين. إلا أن الثابت وغير القابل للجدال أن ما نعثر عليه من قواعد خاصة بالإجراءات الإدارية (سواء القضائي أم غير القضائية) ماهي إلا طوائف مبعثره من القواعد القانونية تفتقر لتقنين جامع لها كما هو الحال بالنسبة للإجراءات الجنائية أو المرافعات المدنية والتجارية، فالقواعد الإجرائية الإدارية تجد مصدرها في التشريعات الإدارية، وأحيانا فيما جرى عليه العمل واستقرت بشأنه أحكام القضاء الإداري، وهي عادة ما ترجع إلى قانون الإجراءات الجنائي أو قانون المرافعات المدنية والتجارية، بقدر ما يتوافق مع وظيفة الدعوى الإدارية.
وهذه الحقيقة والتي مؤداها افتقارنا إلى القانون الإجرائي الإداري الموحد والمتكامل، بل إننا لا أتجاوز حدود تلك الحقيقة إذا ما قررنا عدم وجود حتى التقنين الإجرائي الإداري الذي يمدنا بالقواعد التي تستطيع استيفاء الجانب الإجرائي الإداري عند إصدار الإعمال والتصرفات الإدارية الآخذة بالنمو والزيادة؛ لذا فإنني أتقدم بدعوى للمشرع اليمني طامعين أن يهب المشرع ليضع تشريعاً إجرائيا إدارياً عساه يجمع فيه شتات الإجراءات الإدارية بشقيها.
والله الموفق..
*قاضي محكمة الأموال العامة م / عدن
المراجع:
- أ- د/ أحمد عبد الملك أحمد بن قاسم: القضاء الإداري_ دراسة مقارنة_ دار الجامعات اليمنية، صنعاء – اليمن، د- س.
- د/ أشرف عبد الفتاح أبو المجد محمد: موقف قاضي الإلغاء من سلطة الإدارة في تسبيب القرارات الإدارية، دراسة مقارنة، د- د، 2005م.
- أ- د/ خالد عمر عبد الله باجنيد: القضاء الإداري- الدعوى الإدارية وخصوصية بنيان الإجراءات القضائية وغير القضائية- دار جامعة عدن للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 2014م.
- عمار بوضياف: محاضرات في القانون الإداري – مدخل لدراسة القانون الإداري- الأكاديمية العربية المفتوحة- الدانمارك 2010م
- ق/ علي أحمد علي الوعل: الرقابة القضائيـة على القرارات الإدارية، الدفعة: السادسة عشرة – المعهد العالي للقضاء اليمني السنة: الثانية،2009م.
- د/ علي علي صالح المصري: الرقابة الإدارية في اليمن- دراسة مقارنة وتطبيقية – الطبعة الأولى 2012م
- أ/ علي محمد مظفر، الرقابة القضائية على آعمال الإدارة في اليمن، رسالة ماجستير مقدمة لكلية الحقوق جامعة القاهرة، 2005م.
- د/ عوايدي عمار: النظرية العامة للمنازعات الإدارية في النظام القضائي الجزائري، ديون المطبوعات الجامعية، ج 1، طبعة 1998م.
- أ/ فادي نعيم جميل علاونة، مبدأ المشروعية في القانون الإداري وضمانات تحقيقه، رسالة ماجستير، كلية الدراسات العليا – جامعة النجاح الوطنية نابلس – فلسطين، 2011م،
- د/ محمد عبد الله حمود: النظام القضائي في دولة الإمارات العربية المتحدة وضرورة وجود قضاء إداري متخصص، بحث منشور في مجلة الشریعة والقانون – العدد الرابع والعشرون- رجب ١٤٢٦ ھ سبتمبر ٢٠٠٥ م.
اكتشاف المزيد من الصحيفة القضائية |
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.


لا تعليق