الفرق بين التدليس المدني والنصب والاحتيال الجنائي


القاضي عبد العليم مهيوب محمد أحمد

يشترك كل من التدليس المدني والنصب والاحتيال الجزائي في كونهما يجعلان إرادة ورضا المجني عليه مشوبة بعيب من عيوب الرضا. غير أنهما يختلفان عن بعضهما كون التدليس المدني يتمثل في الكذب أو السكوت العمدي الذي يدفع بالمتعاقد الآخر للوقوع في الغلط ولو كان يعلم به لما كان ليبرم العقد  وقد نصت على أحكامه المادة (179) من القانون المدني، وبالتالي فإن القانون المدني يكتفي بالسكوت العمد عن واقعة أو ملابستها لإعطاء الطرف الذي تم خداعه الحق في المطالبة ببطلان العقد، غير أن النصب والاحتيال الجزائي لا يكتفي المشرع لقيامه على السكوت العمد عن واقعة أو ملابستها، حيث حدد الوسائل الاحتيالية في نص المادة (310) من قانون العقوبات والتي نصت على أنه : (يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات أو بالغرامة من توصل بغير حق إلى الحصول على فائدة مادية لنفسه أو لغيره وذلك بالاستعانة بطرق احتيالية (نصب) أو اتخذ اسماً كاذباً أو صفة غير صحيحة)، وبذلك يكون المشرع قد حدد الوسائل المجرمة بوسيلتين على سبيل الحصر هما: استعمال طرق احتيالية، أو باتخاذ اسم كاذب أو صفة غير صحيحة، وإلى جانب ذلك فإن التدليس المدني يختلف عن النصب والاحتيال الجزائي من حيث الآتي: 

من حيث الجزاء: فالقانون المدني رتب على التدليس المدني جواز إبطال العقد من طرف المتعاقد المدلس عليه، أما القانون الجزائي فرتب على ذلك عقوبات جزائية تتمثل في الحبس والغرامات بالتالي فهو لا يكتفي بإعادة الحال إلى ما كان عليه قبل إبرام العقد كما هو الحال في القانون المدني.

وبذلك نصل إلى حقيقة مفادها من حيث الأصل أن الكتمان أو الكذب المجرد لا يكفي وحده لقيام الاحتيال في النصب بل ينبغي أن تصحبه مظاهر خارجية تعززه وتحمل الغير على الاعتقاد بصحته، فالاحتيال لا يتكون من ادعاءات مجردة ولو بالغ المدعي في تأكيد صحتها فعززها بالأيمان المغلظة أو بالحجج المقنعة، أو عمد إلى الإلحاح والتكرار حتى يحمل الغير على التصديق”، ذلك أنه يفترض في الإنسان أن يكون على قدر من الحذر، أما إذا سقط ضحية لأتفه الأسباب فالخيار الوحيد له هو اللجوء إلى القانون المدني لاسترداد ماله أو للحكم له بالتعويض, وذلك أن جريمة النصب والاحتيال لا تقوم على الكتمان أو الكذب المجرد إلا إذا كان الكذب مدعما بمظاهر خارجية، إلا أن المشرع اليمني خرج عن ذلك فاكتفى بكفاية الكذب في صورة ادعاء الشخص اسماً كاذباً أو صفة غير صحيحة.

والتدليس في القانون الجنائي وسيلة إلى الاعتداء على الملكية والتدليس في القانون المدني عيب من عيوب الرضا، أو خطأ موجب للتعويض و يستتبع ذلك اختلافاً من حيث التكييف والآثار.

من حيث التكييف والآثار: فالنوع الأول تقوم به جريمة، والنوع الثاني يستوجب فحسب بطلان العقد، أو الالتزام بالتعويض، وقد رتب الشارع على هذا الاختلاف في الدور اختلافاً في الشروط، وهو اختلاف لا يمتد إلى طبيعة التدليس وأهم موطن لاختلاف الشروط أنَّ قانون العقوبات يتطلب أن يتحقق التدليس عن طريق إحدى الوسائل التي نص عليها، أما التدليس في القانون المدني فيتم بأي صورة أو وسيلة. 

وقد حددت المادة (310) عقوبات يمني وسائل التدليس الجنائي في الطرق الاحتيالية و اتخاذ اسم كاذب أو صفة غير صحيحة، أما أساليب التدليس المدني فلا تدخل صوره تحت حصر.

 يتميز التدليس الجنائي أنه: أضيق نطاقاً وأن غايته أكثر تخصصاً، فالمدلس في القانون المدني يسعى إلى حمل الطرف الآخر على إبرام عقد، أو على إبرام تصرف قانوني بوجه عام، أما النصاب والمحتال فغايته سلب مال الغير بالذات.

وهذا الفارق بين النصب ومطلق التدليس ينعكس على أركانهما، فبينما تقتصر دائرة النصب على التصرفات التي تتيح للجاني الاستيلاء على المال وتملكه، فإن دائرة التدليس تتسع لتشمل كل تصرف قانوني سواء كان من شأنه إنشاء حق عيني أو شخصي أو تعديله أو نقله أو انقضائه.

وعدم التمييز بينهما أدى إلى حدوث لبس لدى الكثير حول مدى تجريم المشرع اليمني لواقعة التصرف في عقار أو منقول لا يملكه وليس لديه حق التصرف فيها، فتجد الكثير من القضايا المنظورة أمام النيابات والمحاكم الجزائية اليمنية خاصة بمتهمين منسوب لهم واقعة النصب والاحتيال قالبها القانوني هذه الوسيلة التي لم يرد لها ذكر في النص العقابي الوارد في قانون الجرائم والعقوبات الذي حدد الوسائل الاحتيالية بوسيلتين اثنتين لا ثالث لهما، ولكن يبد أن البعض مع الأسف يعتمد في فهمه للنص على شُراح القانون المصري فنتج عن ذلك لبس لدى البعض من أن القانون اليمني في هذه الجزئية قد سلك مسلك المشرع المصري، والذي جرم التصرف في عقار أو منقول لا يملكه ولا له حق التصرف فيه وجعل هذه الصورة وسيلة من وسائل الاحتيال الجنائي. والذي أوردتها المادة (336) عقوبات مصري إلا أنهم لو عادوا إلى قانون الجرائم والعقوبات اليمني وعلى وجه الخصوص نص المادة (310) منه لتبين لهم بأن المشرع اليمني لم ينص على هذه الوسيلة، حيث إن هذه الوسيلة الاجرامية تقوم في القانون المصري بمجرد الكذب مثلها مثل اتخاذ اسم كاذب أو صفة غير صحيحة، ولا تحتاج إلى مظاهر خارجية.  ذلك أن الزعم بملكية المال هو في ذاته كافٍ لأن يتولد لدى المجني عليه الاعتقاد بأن من يتصرف له هو المالك ذو الحق في اتخاذ الإجراء إلا أنه مع ذلك فإن المشرع المصري في هذه الصورة قد اشترط شرطين حتى يحكم على التصرف أنه تصـرف احتيالي هما:

الشرط الأول: عدم الملكية : يتحقق هذا الشرط إذا كان الجاني وقت التصرف غير مالك سواءً كان أجنبياً عن المال تماماً فلم يدخل المال ملكه أصلاً، أو كان قد ملكه زمناً ثم زالت ملكيته لسبب من الأسباب المبينة في القانون. 

الشرط الثاني: عدم ثبوت حق التصرف : التصرف في الشيء سلطة يقصرها القانون على مالكه، وقد يمارس المالك هذه السلطة بنفسه أو عن طريق نائبه، وتستمد النيابة مصدرها إما من القانون مباشرة كنيابة الولي أو من القضاء كنيابة القيم والوصي، أو من العقد كنيابة الوكيل.

ومع ذلك لم يكتفَ المشرع المصري بتوافر الشرطين في هذه الوسيلة بل أوجب اجتماع الشرطين السابقين معًا، حيث إن “عبارة القانون صريحة في وجوب اجتماع الشرطين معاً، فهي تعاقب على كل تصرف في مال ثابت أو منقول ليس ملكاً له، ولا له حق التصرف، ومذهب جمهور الفقهاء في مصر يذهب إلى أن أياً من الشرطين لا يغني عن الآخر.

غير أن هنالك رأي ضعيف في الفقه المصري يرى التخفيف فلا يوجب اجتماع الشرطين بل يكتفي بأحدهما، وهو يستند أساساً إلى الحكمة التي توخاها الشارع من العقاب على هذه الصورة من صور الاحتيال، ويرى أن الإصرار على لزوم الشرطين معاً يوهن من قيمة النص، ويقلل من فائدته، ويسمح لكثير من صور الاحتيال التي تعرض في الحياة العملية بالإفلات من أحكامه، أما عبارة النص فلا يجدها أنصار هذا الرأي عقبة كأداء، ذلك أن حرف الواو الذي يتوسط الشرطين إن كان في فقه اللغة يفيد العطف عادة، فإنه يفيد التنويع أحياناً أخرىً فيجوز في صحيح اللغة أن ترد الواو بمعنى أو، وعلى ذلك  لا تقتصر على الجمع، بل تفيد كذلك التخيير. 

إلا أن الراجح والمعمول به لدى القضاء المصري وهو مذهب الجمهور، وهو ما نراه نحن أولى بالترجيح، لأن الواو بحسب الأصل حرف عطف، وهي عند الأصوليين توجب الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في الخبر، فهي تفيد الجمع لا المغايرة أو التغيير، ولا ينبغي صرفها عن وظيفتها الطبيعية إلى وجهٍ مختلفٍ لا تنصرف إليه إلا على وجه الندرة والشذوذ “

وقد أخذت محكمة النقض المصرية بهذا الرأي عندما قضت بعدم وقوع جريمة النصب من شخص باع أطيانه المحجوز عليها بعد إخطاره بتنبيه نزع ملكيتها وتسجيل هذا التنبيه، على أساس أن تسجيل تنبيه نزع الملكية وإن كان يترتب عليه غل يد المدين في التصرف في العقار، إلاّ أنه لا يخرج العقار من ملكه.

وحيث إن الثابت إن قانون الجرائم والعقوبات اليمني قد حدد جريمة الاحتيال بوسيلتين على سبيل الحصر هما: استعمال طرق احتيالية، و اتخاذ اسم كاذب أو صفة غير صحيحة، على عكس بعض القوانين الجزائية العربية، كالقانون المصري والأردني والسوري فقد أضافت إلى ذلك تصرف الجاني في مال منقول أو غير منقول وهو يعلم أنه ليس ملكاً له وليس له حق التصرف فيه وذلك بالادعاء كذباً بملكيته لذلك المال و بأن له حق التصرف فيه، وقد أحسنت تلك التشريعات حينما جرمت هذه الصورة الاحتيالية التي أضحت تؤرق المجتمع في هذه الأيام وكان الأولى بالمشرع اليمني أن ينص على تجريمها ويعتبرها الصورة الثالثة من الوسائل الاحتيالية المجرمة.

والله الموفق..

                                                                                                            *قاضي محكمة الأموال العامة م / عدن


اكتشاف المزيد من الصحيفة القضائية |

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

لا تعليق

اترك رد