تقرير – القضائية
تُعدُّ صفة الضبطية القضائية من أهم الصلاحيات التي يمنحها القانون لبعض موظفي الدولة؛ لتمكينهم من مباشرة التحقيقات الأولية وضبط الجرائم، بما يسهم في حماية الحقوق وتحقيق العدالة، وتُناط بحاملي هذه الصفة مسؤوليات جسيمة تستلزم التقيّد الصارم بالقواعد القانونية والإجرائية، إلى جانب توافر صفات شخصية ومهنية تؤهلهم للقيام بدورهم الحساس في النظام العدلي.
يستعرض هذا التقرير أبرز المهام القانونية الموكلة لمأموري الضبط القضائي، والقواعد التي تنظم عملهم، والتحديات والمخاطر القانونية التي قد تنشأ عند الإخلال بواجباتهم، وذلك من خلال آراء عدد من القضاة ووكلاء النيابة المختصين.
مفهوم الضبطية القضائية وأهميتها
تُمنح الضبطية القضائية لموظفين في جهات حكومية محددة، مثل الشرطة وأعضاء النيابة وبعض العاملين في المؤسسات الرقابية، بهدف تمكينهم من أداء مهامهم القانونية في ضبط الجرائم، والتحقيق فيها ضمن إطار قانوني صارم.
وفي هذا السياق، أكد القاضي عشال قاسم المسبحي، وكيل نيابة الآثار، أن الضبطية القضائية تُعدُّ من الركائز الأساسية في دعم منظومة العدالة، كونها تمثل الأداة الأولى في مسار التحقيق الجنائي.
وقال: “الضبطية القضائية تُعدُّ أحد الأجهزة المساعدة لتحقيق العدالة، حيث يقوم مأمورو الضبط بجمع الأدلة وضبط المتهمين، وهي المهام التمهيدية التي تضع اللبنة الأولى في بناء الدعوى الجنائية، وتحقيق العدالة”.
وأضاف: “أن أهمية هذه الصفة تكمن في الدور الحيوي الذي يقوم به مأمورو الضبط في حماية المجتمع من الجريمة، وتوفير بيئة آمنة يسودها النظام، مشيرًا إلى أن النجاح في هذا الدور يتطلب أن يتحلَّى القائمون عليه بالعلم الكافي بقواعد الإجراءات والتحقيق، وبالأمانة والمسؤولية التي تفرضها طبيعة مهامهم”.
وتابع قائلًا: “ينبغي أن يجمع مأمورو الضبط القضائي بين المعرفة القانونية الدقيقة، والنزاهة المهنية، فهم أول من يتعامل مع الواقعة الجنائية، وأفعالهم تنعكس بشكل مباشر على مسار العدالة برمّته”.

المهام القانونية الموكلة لمأموري الضبط القضائي
يتولَّى مأمورو الضبط القضائي مجموعة من المهام الجوهرية التي تمثل الأساس في العملية الأمنية والقضائية، وتشمل تلقي البلاغات، وجمع الأدلة، وضبط المشتبه بهم، وتنفيذ أوامر القبض والتفتيش، إلى جانب تحرير المحاضر الرسمية وغيرها من الإجراءات ذات الصلة.
وفي هذا السياق، قال القاضي عبدالمنعم الشعيبي، قاضٍ في محكمة الضالع الابتدائية: “تتمثل مهام مأموري الضبط القضائي في استقصاء الجرائم، وتعقب مرتكبيها، وجمع الاستدلالات، ومراقبة نشاط الأفراد بما لا يتعارض مع القوانين المنظمة لذلك، واتخاذ التدابير الأمنية اللازمة، وخدمة المجتمع من خلال المهام الشرطية ذات الصلة، فضلًا عن الاستدعاء والاستيقاف، والاصطحاب إلى مراكز الشرطة، والتحفظ الإداري على الأشياء المخلة بالأمن، والتفتيش الإداري في النقاط الجمركية أو قبل ركوب الطائرات أو دخول الأماكن العامة، مثل التفتيش في أثناء مكافحة الحرائق. وعمومًا، يضطلع مأمورو الضبط القضائي بمسؤولية منع وقوع الجرائم وضمان احترام القانون، وفقًا للضوابط والقيود القانونية المحددة”.
وعن الصفات المطلوبة في من يحمل صفة الضبطية القضائية، أوضح القاضي الشعيبي: “ينبغي أن يتحلَّى مأمورو الضبط القضائي بالحياد والنزاهة، والامتناع عن الرشوة، والالتزام بمبدأ الشرعية، بحيث تُمارس مهامهم وفقًا للقوانين النافذة، مع احترام الكرامة الإنسانية، حتى عند التعامل مع المخالفين.
كما يجب عدم استخدام العنف غير المبرر، إلا في الحالات التي يسمح بها القانون، كاستخدام الغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرين عند حدوث الشغب. ويُفترض كذلك العمل على كسب تعاون المواطنين، وضمان حقهم في التظلم من أي تجاوزات قد تصدر عن أفراد الشرطة، مع الالتزام بأن وظيفة الضبط الإداري هي في جوهرها وظيفة إنسانية واجتماعية”.

قواعد التحقيق في إطار الضبطية القضائية
أشار القاضي المنتصر بالله وهيب، وكيل النيابة الجزائية المتخصصة بعدن، إلى أن التحقيق الابتدائي الذي يجريه مأمورو الضبط القضائي يخضع لمجموعة من القواعد التي تضمن حماية الحقوق وتحقيق العدالة، ومن أبرزها:
● احترام الضمانات الدستورية والقانونية: يجب على مأموري الضبط القضائي التقيد بضمانات المتهم، وأهمها افتراض البراءة، وعدم المساس بالحرية الشخصية إلا وفق القانون، وتوفير حق الدفاع من اللحظة الأولى للإجراءات.
● تدوين المحاضر بصورة دقيقة وحيادية: ينبغي أن تكون المحاضر مكتوبة بشكل دقيق يعكس حقيقة الوقائع والإجراءات المتخذة، دون تحريف أو انتقاص، لأنها تشكل الأساس الذي يُبنى عليه مسار القضية.
● عدم اللجوء إلى الإكراه أو التعذيب: يمنع القانون بشكل قاطع استخدام أي وسيلة من وسائل الإكراه المادي أو المعنوي في أثناء التحقيق، إذ يُعدُّ ذلك انتهاكًا خطيرًا لحقوق الإنسان، ويعرض الإجراءات للبطلان.
● التقيد بالاختصاص المكاني والنوعي: يجب على مأمور الضبط أن يعمل ضمن حدود اختصاصه المكاني والنوعي، وأي تجاوز في هذا الجانب يُعدُّ مخالفة قانونية.
● إبلاغ النيابة العامة فوراً: بعد ضبط المتهم أو جمع الأدلة، يجب على مأمور الضبط القضائي إبلاغ النيابة العامة دون تأخير، لتتولى هي الإشراف على مجريات التحقيق، وشرعية الإجراءات.
● ضبط الأدلة وفق الطرق القانونية: يتعين على مأمور الضبط أن يجمع الأدلة ويحرزها وفق الطرق القانونية التي تحفظ حجيتها، مثل الحفاظ على مسرح الجريمة، وتوثيق المضبوطات.

الضوابط القانونية في أثناء التحقيقات الأولية
أوضح القاضي عشال المسبحي أن الالتزام بالضوابط القانونية يُعزّز من نزاهة الإجراءات، ويضمن احترام الحقوق، وقال: “من أبرز الضوابط: سرعة الانتقال إلى مكان الواقعة عند وقوع الجريمة، والتعامل الجاد مع البلاغات بما يحقق الهدف الأسمى، وهو مكافحة الجريمة، وتعزيز الأمن العام”.
وأضاف: “ينبغي التحلّي بالضمير المهني الحي، والالتزام بالقيم الأخلاقية في أثناء أداء المهام، إلى جانب الإلمام الكامل بطرق جمع الأدلة وحفظها دون إتلاف أو تلاعب، وكذلك الحفاظ على كرامة الإنسان وحقوقه”.
وأكد: “يُحظَر تمامًا استخدام أي شكل من أشكال الإكراه لاستخلاص الاعترافات، ويجب احترام مبدأ قرينة البراءة، والالتزام بالشفافية والتعامل الإنساني مع المشتبه بهم”.
وتابع: “أن القانون يُلزم مأموري الضبط القضائي بإبلاغ النيابة العامة فورًا عند الانتقال لمباشرة إجراءات التحقيق في الجرائم الجسيمة، والعمل وفق تعليماتها؛ لضمان تكامل الأدوار بين الجهات المعنية، وسلامة الإجراءات القانونية”.
التزامات مأموري الضبط القضائي
أشار القاضي فؤاد جابر لرضي، رئيس نيابة استئناف سيئون، إلى أن المادة (84) من قانون الإجراءات الجزائية تُحمل مأموري الضبط القضائي مسؤوليات جوهرية في النظام العدلي.
وقال: “القيام بجمع الاستدلالات وفق الأصول القانونية، بوصفهم المعنيين بإعداد أول محضر في القضية، الذي تبني عليه النيابة العامة لاحقًا إجراءاتها، وبالتالي فإن أي خلل في هذا المحضر ينعكس على سير العدالة”.
وأشار إلى أهمية “التحلّي بالمسؤولية والانضباط المهني، بحيث لا يجوز أن يُحرّر محضر جمع استدلالات من قبل شخص غير مؤهل أو لا يحمل الصفة القانونية، مثل جندي أو فرد غير مدرب، لأن ذلك يعرّض المحضر للطعن، ويضعف قوته القانونية”.
وأوضح: “ضرورة تحرير محاضر جمع الاستدلالات في موقع الجريمة ذاته، وليس في مراكز الشرطة أو مواقع بديلة، على أن يتم ذلك بحضور المتهم والشهود، مع أخذ تواقيعهم مباشرة، لضمان الحياد والمصداقية”.. لافتًا إلى أن الالتزام بالتنسيق مع النيابة العامة، من حيث تسليم المحاضر، وعدم تجاوز صلاحيات جمع الاستدلالات، بوصف النيابة هي الجهة المخولة قانونًا بالإشراف على مأموري الضبط القضائي”.
وأضاف: “هذه الالتزامات ليست مجرد إجراءات روتينية، بل هي مسؤوليات قانونية وأخلاقية تستدعي التأهيل المستمر والمتابعة الدقيقة، لأنها تمثل اللبنة الأولى لتحقيق العدالة، وتُسهم في ترسيخ سيادة القانون وصون الحقوق”.

واقع الضبطية القضائية والاحتياجات الملحة
وحول واقع الضبطية القضائية والاحتياجات المتعلقة بها، أشار القاضي الشعيبي إلى وجود فجوة معرفية لدى بعض مأموري الضبط القضائي، خصوصًا بعد التحاق عدد كبير من الشباب بالأجهزة الأمنية عقب حرب عام 2015م، حيث قال: “هناك حاجة ملحة إلى تأهيل مأموري الضبط القضائي قانونيًا وعمليًا عبر تنظيم دورات تدريبية مكثفة، لتزويدهم بالمعرفة الكافية حول نصوص القانون وصلاحياتهم وواجباتهم، فبعض المنتسبين الجدد يفتقرون إلى الوعي الكامل بمهامهم، ما يستدعي العمل الجاد على رفع كفاءتهم، وتعزيز وعيهم القانوني؛ لضمان أداء أدوارهم بكفاءة، وفق مقتضيات النظام والقانون”.
وأضاف القاضي الشعيبي: “أن استمرار الأداء العشوائي لبعض مأموري الضبط القضائي دون وعي كافٍ بالقانون والإجراءات قد يؤدي إلى الإخلال بسير العدالة، بل قد يُعرّض الإجراءات القضائية للطعن والبطلان. من هنا، فإن التأهيل والتدريب المستمر ليس مجرد خيار، بل ضرورة لضمان الالتزام بالمعايير القانونية والحقوقية، ولتفعيل دور الضبط القضائي في خدمة العدالة، وتعزيز ثقة المواطن بالأجهزة الأمنية والقضائية”.
المخاطر القانونية الناتجة عن التجاوز أو الإخلال
أشار القاضي المنتصر بالله وهيب إلى أن تجاوز مأمور الضبط القضائي لاختصاصاته أو إخلاله بالإجراءات قد يُترتب عليه آثارًا قانونية خطيرة، منها:
● بطلان الإجراءات: أي إجراء يتم خارج إطار القانون، كالتفتيش دون إذن أو الاعتقال دون مسوغ قانوني، قد يؤدي إلى بطلان ما يترتب عليه من أدلة أو محاضر، مما يُضعف مركز النيابة أمام المحكمة.
● المساءلة التأديبية والجزائية: مأمور الضبط الذي يتجاوز صلاحياته قد يُحال للتحقيق، ويُعرض لعقوبات تأديبية أو حتى جنائية، لاسيما إذا رافق التجاوز انتهاكات حقوقية.
● المساس بحقوق المواطنين وحرياتهم: هذا يُعدُّ من أخطر النتائج، حيث يؤدي التجاوز إلى الإضرار بحقوق الأفراد، ويزعزع الثقة في مؤسسات الدولة، ويعزز شعور الظلم في المجتمع.
● إضعاف ملف القضية: قد يؤدي الإخلال بالإجراءات إلى ضعف الملف الجنائي، ما قد يفضي إلى إفلات الجاني من العقاب رغم وجود أدلة، بسبب عدم قانونية طريقة جمعها.
● الإضرار بسمعة المؤسسة الأمنية أو القضائية: الممارسات الخاطئة من قبل بعض مأموري الضبط القضائي قد تُستخدَم لتشويه صورة العدالة في وسائل الإعلام، ما يستدعي المزيد من الرقابة والتأهيل المهني.
وختم بقوله: “الضبطية القضائية سلطة حساسة تتطلب من حامليها الوعي القانوني، والنزاهة، والالتزام الكامل بالإجراءات، بوصفهم الخط الأول في سلسلة تحقيق العدالة”.
أهمية التأهيل والتدريب المستمر
أكد القاضي لرضي على أن التأهيل والتدريب يُمثلان ضرورة ملحة لمأموري الضبط القضائي، قائلًا: “المعرفة القانونية الدقيقة، لاسيما في الإجراءات الجنائية، ضرورية لتمكينهم من أداء واجبهم بكفاءة، إلى جانب التدريب العملي في كيفية التعامل مع مسرح الجريمة”.
وقال: “لوحظ في كثير من القضايا أن محاضر جمع الاستدلالات يتم إعدادها من قبل أفراد لا يحملون الصفة الضبطية، كجنود أو أفراد غير مؤهلين، ما يجعل هذه المحاضر عرضة للطعن القانوني، ويضعف من قوة الملف أمام النيابة أو القضاء”.
وشدد القاضي لرضي على أن محضر الضبط يجب أن يُحرَّر في مسرح الجريمة، وأن يتضمن توقيع المتهم والشهود، لأن أي إعداد أو تحرير لمحضر في مكان آخر مخالف للمبدأ القانوني، ويعرض الإجراءات للبطلان.
وأضاف: “يجب أن يشمل التدريب استخدام التقنيات الجنائية الحديثة، مثل جمع الأدلة الرقمية أو التصوير الجنائي، وربطها بالقواعد القانونية المنظمة، فإجراء التحقيقات المبدئية يتطلب قدرًا عاليًا من المهارة في الحوار والاستجواب، وفهم حقوق المتهمين والشهود”.
خاتمة
تُعدُّ الضبطية القضائية ركيزة الانطلاق الأولى في منظومة العدالة الجنائية، إذ تجمع بين الصلاحية القانونية والواجب الأخلاقي، وتُسهم في حماية الحقوق، وتحقيق الأمن، ومع ذلك، فإن نجاح هذا الدور يعتمد على مدى التزام مأموري الضبط بالقانون، وتأهيلهم المستمر، وضمان الرقابة المؤسسية على أدائهم، بما يعزز من كفاءة العدالة وثقة المجتمع فيها، ولذلك، فإن الاستثمار في تأهيل مأموري الضبط القضائي يُعدُّ استثمارًا مباشرًا في تحقيق العدالة، وصون الحقوق والحريات.
اكتشاف المزيد من الصحيفة القضائية |
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
لا تعليق