علم البصمات الوراثية وعلاقته بالعمل القضائي


تقرير – القضائية

المقدمة


شهد العالم ثورة علمية حقيقية مع اكتشاف البصمة الوراثية، التي أدَّت إلى نقلة نوعية في علم الإجرام، ووسائل مكافحة الجريمة بشكل خاص، وفي مجال التحقيقات الجنائية والعمل القضائي بشكل عام، حيث أثبت النظام الوراثي من خلال تحليل الحمض النووي أن خلايا الدم، والحيوانات المنوية، واللُّعاب، والشَّعر، والجلد تحمل التركيب الوراثي نفسه للشخص ذاته، بما يجعل إمكانية الخلط أو الاشتباه معدومة تقريبًا باستثناء حالة نادرة تتمثل في التوائم المتطابقة.


ومنذ ذلك الحين، أصبح هذا الاكتشاف أحد أكثر الأدلة العلمية دقةً وموثوقيةً في ساحات القضاء، بل عُدّ نقلة نوعية في أساليب الإثبات الجنائي والأحوال الشخصية على حد سواء، فقد أتاح هذا الاكتشاف للعدالة أداةً دقيقةً وموثوقةً لتحديد هوية الأشخاص بدرجة تكاد تنعدم فيها نسبة الخطأ، باستثناء بعض الحالات النادرة مثل التوائم المتطابقة، ولم يُعد القضاء يعتمد على الشهادة أو القرائن الظرفية فحسب، بل أصبح أمام دليل علمي قطعي، يمكن أن يبرئ بريئًا أو يدين مجرمًا.


أولًا: مفهوم البصمة الوراثية
يمكن تعريف البصمة الوراثية بأنَّها النمط الفريد من تتابعات الحمض النووي (DNA) الموجود في كل خلية من خلايا جسم الإنسان، بما في ذلك الدم، واللُّعاب، والشَّعر، والجلد، والحيوانات المنوية، وحتى بقايا الأظافر.


وتعود قصة هذا العلم إلى منتصف ثمانينيات القرن الماضي، حين اكتشف العالم البريطاني أليك جيفريز (Alec Jeffreys)، بالصدفة وجود أنماط متكررة في الحمض النووي، يمكن استخدامها للتمييز بين الأفراد بدقة مذهلة.


هذا الاكتشاف غير المسبوق فتح الباب أمام إمكانية مقارنة الآثار البيولوجية التي يتركها الجاني في مسرح الجريمة، سواء كانت قطرات دم أو بقايا لُعاب أو شعرة أو حتى خلايا جلدية دقيقة، مع الحمض النووي للمشتبه بهم.


ثانيًا: المزايا العلمية للبصمة الوراثية
البصمة الوراثية لم تقتصر على التحقيقات الجنائية، بل امتدت إلى مجالات أخرى بالغة الحساسية، حيث تستخدم كذلك في قضايا النسب، كما لعبت دورًا محوريًا في مجال الأحوال الشخصية، من خلال إثبات الأبوة أو نفيها، وحسم النزاعات الأسرية المعقدة.


وفي مجال الهجرة، استفادت بعض الدول من هذا العلم للتحقق من صحة ادّعاءات لمّ الشمل وكشف حالات التزوير أو الانتحال.. كما برز دورها في الكوارث الكبرى والحوادث الجماعية، التي يتعذر فيها التعرُّف على هوية الضحايا عبر الطرق التقليدية، ويمكن تلخيص المزايا العملية بالآتي:ـ
– فرادة النمط الوراثي: لا يتشابه شخصان في البصمة الوراثية إلَّا في حالات التوائم المتطابقة.
انعدام احتمال الخطأ تقريبًا: تصل نسبة الدَّقّة إلى ما يقارب 100% عند إجراء الفحوصات، وفق المعايير المخبرية المعتمدة.
إمكانية استخلاص البصمة من آثار ضئيلة: كقطرة دم، أو شعرة، أو أثر لُعاب.
ثبات البصمة: لا تتغير طوال حياة الإنسان، مما يجعلها دليلًا مستمرًا وصالحًا للاستخدام في أي وقت.


ثالثًا: دور البصمة الوراثية في العمل القضائي

1. التحقيقات الجنائية
تحديد هوية الجناة عبر الآثار البيولوجية في مسرح الجريمة (دماء، شَعر، لُعاب، سائل منوي).
ربط المشتبه به مباشرة بمسرح الجريمة أو الضحية.
المساعدة في استبعاد الأبرياء وإغلاق قضايا عالقة منذ سنوات (قضايا “البصمة الباردة”).

2. قضايا الأحوال الشخصية
إثبات النسب أو نفيه، في دعاوى الأبوة أو الأمومة.
معالجة نزاعات الإرث التي تتطلب إثبات القرابة.
حماية الأطفال من التزوير في الهوية أو اختلاط الأنساب.

3. الهجرة والجنسية
استخدمته بعض الدول للتحقق من صحة طلبات لمّ الشمل العائلي أو الهجرة، وكشف محاولات الانتحال أو الادّعاء الكاذب بالقرابة.

4. الكوارث والحوادث الجماعية
التعرف على ضحايا الحوادث أو الكوارث الطبيعية، عندما يصعب الاعتماد على الوسائل التقليدية كالصور أو بصمات الأصابع.


رابعًا: التطبيقات القضائية الدولية
لقد كانت بريطانيا أول دولة تستخدم هذه التقنية قضائيًا عام 1986م عندما أسهمت في كشف لغز جريمة قتل معقدة، حيث برأت مشتبهًا به، وأدانت آخر اعتمادًا على الدليل الوراثي.
وأصبحت البصمة الوراثية في الولايات المتحدة أداةً رئيسيةً في المحاكم، وأسهمت في تبرئة مئات الأبرياء الذين قضوا سنوات خلف القضبان ظلمًا، بفضل “مشروع البراءة” (Innocence Project)، الذي أعاد فتح ملفات قديمة مستندًا إلى هذا الدليل العلمي.


أمَّا في العالم العربي، فقد اعترفت المحاكم في دول مثل مصر، والسعودية، والأردن، بالبصمة الوراثية بوصفها قرينةً قويةً، ولاسيما في قضايا النسب والأحوال الشخصية، مع تقييد استخدامها في قضايا الحدود الشرعية، فيما ظل استخدامها في التحقيقات الجنائية متفاوتًا باختلاف الإمكانيات والتشريعات.


خامسًا: التحديات القانونية والأخلاقية
بالرغم من دقّة هذا المجال العلمي، لم يخلُ من إشكاليات قانونية وأخلاقية، فمسألة الخصوصية وحماية البيانات الوراثية، تثير مخاوف جدية من إساءة الاستخدام إذا لم تخضع لضوابط صارمة.. كما أنَّ بعض الفقهاء القانونيين والشرعيين يرون أنَّ البصمة الوراثية قرينة قوية، لكنها لا تصل في كل الأحوال إلى مرتبة الدليل القطعي، ولاسيما في القضايا التي تتصل بالحدود الشرعية.


يضاف إلى ذلك التحدّي المتمثل في تكلفة الفحوصات، وعدم توافر الأجهزة الحديثة في مجال فحص الحمض النووي بتقنيات عالية، وضعف البنية التحتية في بعض الدول النامية، فضلًا عن الحاجة الماسة لتأهيل كوادر قضائية ومخبرية متخصصة قادرة على التعامل مع هذه التقنية المعقدة.


وبالتالي فإنَّ التحديات تتلخص بالآتي:
– حماية الخصوصية: تخزين قواعد بيانات DNA يثير مخاوف بشأن إساءة استخدامها.
– الضوابط الشرعية والقانونية: بعض الفقهاء يشددون على أنَّ البصمة الوراثية قرينة قوية، لكنها لا ترقى إلى مستوى الدليل القطعي في جميع القضايا.
– تكلفة الفحوصات وعدم توافر أجهزة فحص الحمض النووي: قد تعيق ضعف الإمكانيات المادية في بعض الدول النامية الاستفادة الكاملة من هذه التقنية.
– التأهيل والتدريب: ضرورة تأهيل كوادر متخصّصة في الطب الشرعي والقانون؛ لضمان دقّة النتائج.


سادسًا: البصمة الوراثية في التشريع اليمني والعربي
جرى في اليمن اللجوء إلى البصمة الوراثية في بعض القضايا المتعلقة بإثبات النسب وحل النزاعات الأسرية، إلَّا أنَّ استخدامها في التحقيقات الجنائية ما يزال محدودًا لضعف الإمكانيات الفنية والمخبرية.


وفي هذا الإطار فقد قامت وزارة العدل بتأسيس المركز الوطني للطب الشرعي، ليكون هذا المجال من ضمن مهامه الفنية في المستقبل، وذلك بالتنسيق مع النيابة العامة ووزارة الداخلية، ولكن حتى الآن لم يتم توفير كافة الإمكانيات الفنية والأجهزة الخاصَّة به.


وعلى الرغم من ذلك، يبقى الباب مفتوحًا أمام هذا العلم ليأخذ دوره الكامل في تعزيز العدالة، وتسريع البت في القضايا الجنائية متى ما توافرت البنية التحتية، والدعم المؤسسي والتشريعي.


سابعًا: آراء قضائية
أوضحت القاضي أحلام محمد، قاضي المحكمة العليا أنَّ البصمة الوراثية تُعَدُّ أهم وسيلة علمية كشفت عنها التطورات البيولوجية الحديثة، كونها فاقت الأدلة الجنائية الأخرى، من حيث دقة وموضوعية نتائجها، وقد أقرَّت أغلب التشريعات فيها، وكشفت التطبيقات القضائية بأنَّ نتائجها كانت دليلًا حاسمًا وقاطعًا في إثبات كثير من الجرائم، ومن هنا تُعَدُّ أهم قرينة في بعض الحالات التي تتعدد فيها البصمات في مسرح الجريمة.


وترى أنَّ “الاعتماد على الأدلة العلمية مثل البصمة الوراثية يخفف كثيرًا من إشكالية تضارب الشهادات أو غياب الأدلة التقليدية”، مؤكدةً الحاجة إلى بنية تحتية حديثة، ودعم لوجستي لتوسيع استخدام هذه التقنية.


أمَّا القاضي بسام غالب، وكيل نيابة الأمن والبحث بالعاصمة عدن، فيشير إلى أنَّ “استخدام البصمة الوراثية في القضايا الجنائية مثل حدوث التفجيرات، ووجود بقايا من جسم الإنسان، وليس جسم كامل للتعرف على الأشخاص الذين قضوا في أثناء الانفجارات، وكذا في قضايا مجهولي الهوية، ممكن التعرُّف عليهم، ولو بعد مرور فترات طويلة، وكذلك قضايا النسب بات أمرًا ضروريًا، ولاسيما مع تزايد النزاعات الأسرية”.


وأضاف أنَّ “مجال البصمة الوراثية بحاجة إلى دعم مؤسسي وتقني لمركز الطب الشرعي التابع لوزارة العدل، وذلك من خلال توفير الأجهزة الخاصة بفحص الحمض النووي، وتجهيزها بالتقنيات الحديثة، فضلًا عن تدريب كوادر مؤهلة قادرة على التعامل مع هذه العينات وحفظها، وفق المعايير الدولية.. لافتًا إلى ضرورة التكامل المؤسسي بين وزارة العدل والنيابة العامة ووزارة الداخلية، حيث إن الاستفادة من هذه التقنية وتطويرها سيمنح القضاء اليمني أداة حاسمة لتعزيز العدالة، وكشف الجرائم المعقدة، وحسم قضايا النسب بموضوعية ودقّة عالية”.


وأشار، في هذا السياق، القاضي الدكتور صالح باشافعي، مدير المركز الوطني للطب الشرعي، إلى أنَّ “البصمة الوراثية لم تعد ترفًا علميًا بل ضرورة قضائية وأمنية ملحّة، فهي الأداة الأكثر دقة في كشف الجناة، وتحديد هوية الضحايا، وإثبات النسب، غير أنَّ واقعنا يواجه تحديات كبيرة أبرزها غياب جهاز فحص الحمض النووي”.


وأضاف أنَّ المركز الوطني للطب الشرعي يعمل جاهدًا على وضع خطط لتأهيل خبراء في هذا المجال، ويعمل على توفير الأجهزة والتقنيات اللازمة، مشددًا على أنَّ الاستثمار في البنية التحتية العلمية للطب الشرعي سيشكل نقلة نوعية في مسار العدالة اليمنية، ويسهم في الحدّ من الجرائم، وتسريع البت في النزاعات الأسرية والجنائية على حد سواء.


ثامنًا: آفاق مستقبلية
يشهد العالم اليوم قفزات هائلة في التطور العلمي، حيث بدأ استخدام تطبيقات علم الأنساب الوراثي والجيني بشكل شبة كامل في الدول المتقدمة، وبالتالي فإنَّه من الضرورة بمكان تعزيز استخدام البصمة الوراثية في القضاء الجنائي اليمني لتسريع كشف الجرائم، كما يجب العمل على إنشاء بنوك وطنية للحمض النووي وفق ضوابط صارمة تضمن حماية الخصوصية، والحرص على إدماج تقنيات حديثة مثل البصمة الميكروبيومية (Microbiome fingerprinting) التي تعتمد على البكتيريا الفريدة في جسم الإنسان.


الخاتمة
أثبت علم البصمات الوراثية أنَّه أحد أهم الاكتشافات العلمية التي غيَّرت وجه العدالة في العالم، فهو لم يعد مجرد أداة مساعدة، بل أصبح دليلًا قاطعًا يوجه مسار القضايا الجنائية والأسرية والهجرية، ورغم التحديات القانونية والأخلاقية، يظل هذا العلم ركيزة أساسية لتعزيز العدالة، وصيانة الحقوق، وحماية المجتمع من الجريمة.


اكتشاف المزيد من الصحيفة القضائية |

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

لا تعليق

اترك رد