د. عُمــر يحيى كُــزابَه
من المعلوم أنَّه يجوز للمتهم الطعن بالاستئناف في الحكم الجزائي الذي قضى: بإدانته بالتهمة المنسوبة إليه في الدعوى الجزائية وإلزامه بطلبات المدّعي بالحق المدني في الدعوى المدنية التبعية، والمقرّر قانونًا وفقهًا وقضاءً: إنَّ استئناف المتهم – بوصفه طريق عادي للطعن في الحكم الجزائي – ينقل الدعويين (الجزائية والمدنية) أمام محكمة الدرجة الثانية لتفصل فيهما مرةً أخرى بوصفها محكمة موضوع، إلَّا أنَّها لا تتصل بتلك الدعويين إلا بطريق الطعن بالاستئناف المرفوع من الخصم المحكوم عليه، وهو هنا المتهم، وبذلك فإنَّ طبيعة وظيفة محكمة الاستئناف أنَّها محكمة موضوع ومحكمة طعن في آنٍ واحدٍ.
طبيعة مرحلة الطعن بالاستئناف ومراكز الخصوم فيها:
تُعَدُّ مرحلة الطعن بالاستئناف إحدى مراحل تتابع سير الدعوى الجزائية؛ كون الطعن بالاستئناف لا يُعَد دعوى جديدة تنشأ بين أطراف مختلفة.
وثمة قاعدة عملية – معروفة وشائعة – مفادها: “أن المستأنف مدعٍ”، وهو يُعَدُّ كذلك بخصوص ادعائه ببطلان الحكم فقط في أسباب استئنافه حاله في ذلك كحال مقدّم الدفع، فهو مدّعٍ في دفعه؛ لأنَّ كليهما يدّعي بما يخالف الظاهر أو الأصل، فيتحمل عبء إثباته، فصار كأنَّه مدعٍ، ففي هذا النطاق المحدود يصح وصفه بأنَّه مدّعٍ بالمعنى الموضوعي للفظ المدّعي الذي يقصد به: كُلُّ من يدّعي خلاف الثابت أو الظاهر، كمقدم الدفع والطاعن كونه يدّعي عيوبًا ومطاعن في الحكم، ولأنَّه يدّعي بخلاف قرينة قانونية هي: “حجية الحكم الابتدائي”، فوجب عليه إثبات ادّعائه (استئنافه)، وعلى الرغم من ذلك يظلُّ المتهم المستأنف هو المدّعى عليه الأصلي في الدعويين المطروحة أمام المحكمة الاستئنافية، ويظلُّ طرفا الادعاء فيهما (النيابة العامة والمدّعي بالحق المدني) هما المدّعيان فيهما، وإن اكتسبا مركزًا جديدًا هو: مركز المستأنف ضده.
المدّعي في نطاق الإثبات: هو الخصم الذي يقع عليه عبء الإثبات، فيشمل المدّعي بالدعوى الأصلية والمدّعى عليه، فيكون كُلُّ خصمٍ من الخصمين في مركز المدّعي بالنسبة للواقعة المدعاة في ادعائه أو مذكراته، فلا يكون عبء الإثبات على عاتق المدّعي الأصلي وحده، بل يجب على كل خصم أن يثبت ما يدّعيه سواءً كان في طرف الادعاء أو طرف الدفاع.
والفرض هنا أنَّ المستأنف هو المتهم الذي لم يزل يتمتع بأصل البراءة (قرينة البراءة) حتى يصدر حكم نهائي بإدانته إلَّا أنَّ قرينة البراءة صارت متعارضة مع قرينة حجية الحكم الابتدائي، فلزِم منه إثبات بطلان قرينة حجية الحكم بإدانته.
وخلاصة القول:
إنَّ رافع الاستئناف لا يصير هو المدّعي الأصلي في الدعوى المطروحة أمام محكمة الاستئناف بسبب رفع استئنافه، فهو في مركز المستأنف فقط الذي يماثل المدّعي في تحمله لعبء الإثبات، ولا ينقلب مركزه إلى مدّعٍ بالمعنى الإجرائي الذي تنطبق عليه الإحكام الإجرائية للمدّعي في الدعوى الأصلية، التي تطبق عليه أمام محكمة أول درجة كما يعتقد بعضهم؛ لأنَّ الدعوى التي فصل فيها الحكم الابتدائي هي ذاتها المطروحة أمام الاستئناف بالمراكز القانوني نفسه، لأطرافها حين رفعها.
إنَّ المقصود بلفظ المدّعي في عبارة: “المستأنف مدع”، هو المدّعي بالمعنى الموضوعي، وهو كُلُّ من يدَّعي أمرًا أو واقعة بخلاف الأصل أو الظاهر، ولا يُقصَد به المدَّعي بالمعنى الإجرائي الذي ينصرف إلى رافع الدعوى الأصلية بصفته صاحب الحقّ المطالب به فيها.
وجوب إعلان عريضة أسباب استئناف المتهم (المحكوم عليه) إلى المستأنف ضدهما وأثره:
المقرّر قانونًا: وجوب إعلان عريضة أسباب استئناف المرفوع من المتهم (المحكوم عليه) إلى المستأنف ضدهما: النيابة العامة والمدَّعي بالحقّ المدني، وهذا ما أكّدته المحكمة العليا في أحكامها؛ إذ قضت بأنَّ: ” إعلان أطراف الخصومة الاستئنافية من النظام العام يترتب على انعدامه البطلان المطلق حسب وصف المحكمة العليا(حكم الدائرة الجزائية هيئة (أ) في الطعن المقيد برقم (48911 ك) الصادر بالجلسة المنعقدة بتاريخ 14/ 4/ 2013م، وعلى ذلك صح القول: إنَّ الإعلان الصحيح بعريضة استئناف المتهم إلى المستأنف ضدهما إجراء واجب لصحة إجراءات المحاكمة الاستئنافية؛ ونتيجة لذلك إذا لم يتم الإعلان _ أو تمَّ بطريقة غير صحيحة _ كان ذلك سببًا لبطلانها، ومن ثم نقض الحكم الاستئنافي المبني عليها، وبذلك قضت المحكمة العليا بقولها: (الشعبة مصدرة الحكم المطعون فيه نظرت الاستئناف المقدم من المطعون ضده حاليًا في غياب الطاعن المستأنف ضده ودون أن تعلمه إعلانًا صحيحًا بميعاد الجلسة بل إنَّها سارت في نظر القضية بحضور محامٍ لم يكن موكّلًا منه مدعية بأنَّ والد المستأنف ضده قد وكّله، في حين أن ملف القضية جاء خاليًا من توكيل الطاعن لوالده، الأمر الذي يجعل الحكم المطعون فيه باطلًا لإخلاله بحقّ الدفاع والمواجهة بين أطراف الخصومة)، حكم الدائرة الجزائية، القواعد الجزائية، العدد21، ص139.
فإذا أُعلنت عريضة استئناف المتهم لطرفي الادعاء المستأنف ضدهما، فقد انعقدت الخصومة معهما أمام محكمة الاستئناف، وتطبيقًا لذلك فقد قُضي بأنَّ: “… الثابت في الأوراق إعلان عريضة الاستئناف لمحامي المستأنف ضده في جلسة….، وبذلك انعقدت الخصومة بين المستأنفين الطاعنين حاليًا وبين المستأنف ضده المطعون ضده حاليًا، فبحصول الإعلان للمستأنف ضده بعريضة الاستئناف تنعقد الخصومة وليس بالردّ على الاستئناف…” (حكم الدائرة التجارية في جلستها المنعقدة بتاريخ 29-9-2010م، في الطعن رقم “42279”).
وبانعقاد الخصومة الاستئنافية معهما يحقُّ للمستأنف ضدهما الردَّ على الاستئناف إن رغبا في الردِّ، كونهما محكوم لهما، فإذا قدَّما ردًّا توجب على محكمة الاستئناف الفصل في استئناف المتهم المحكوم عليه، والسؤال الذي نسعى للإجابة عليه، هو:
هل يلزم تقديم ردّ من المستأنف ضدهما على استئناف المتهم؟ وإذا لم يحضر المستأنف ضده (المحكوم له المدّعي بالحقّ المدني) بعد إعلانه لشخصه، فهل يُعَدُّ حضوره أو تقديم ردّه شرطًا واجبًا وحتميًا للفصل في استئناف المتهم؟، والإجابة عن التساؤل المطروح تتطلب تحديد المركز القانوني للمدّعي بالحقّ المدني في الخصومة الناشئة عن الاستئناف المرفوع من المتهم، وذلك ما سيتم بيانه في الآتي:
المركز القانوني للمدّعي بالحقّ المدني في الخصومة الناشئة عن الاستئناف المرفوع من المتهم:
يُعَدُّ بعضهم المدّعي بالحقّ المدني المستأنف ضده في مركز المدّعى عليه بل يعدُّونه هو المدّعى عليه أمام محكمة الاستئناف، ونتيجة لهذا الاعتقاد يطبّقون عليه ذات الأحكام والواجبات الإجرائية للمدعى عليه أمام محكمة أول درجة، فيرون بوجوب التنصيب عنه إذا تعذَّر إحضاره بعد إعلانه أمام محكمة الاستئناف؛ ليقدم المنصوب ردًّا عنه، تطبيقًا لأحكام قانون المرافعات المتعلقة بغياب المدّعى عليه أمام المحكمة الابتدائية المنصوص عليها في المادة (116) مرافعات!!
فهل التنصيب عن المدّعي بالحق المدني المحكوم له ابتدائيًا إجراءً واجبًا لصحة الحكم الاستئنافي في حال امتناعه عن الحضور، بعد إعلانه لشخصه بعريضة استئناف المتهم؟ وما مدى توافق ذلك مع أحكام قانون الإجراءات الجزائية؟
والجواب: من المقرّر قانونًا: أنَّ الإجراءات التي تتّبع عند نظر الدعوى المدنية التبعية أمام المحاكم الجزائية والفصل فيها أيضًا، هي الإجراءات المنصوص عليها في قانون الإجراءات الجزائية حسبما نصَّت على ذلك المادة(62) إ.ج بقولها: “يتّبع في الفصل في الدعوى المدنية التي تُنظَر تبعًا للدعوى الجزائية، الإجراءات المقرّرة في هذا القانون، “وباستقراء نصوص قانون الإجراءات الجزائية يتبيَّن أنَّها لم تنص على إجراء التنصيب في حال غياب أيّ طرف من الأطراف المشاركة الإجراءات أمام المحكمة الجزائية سوى المتهم فقط، بما مؤداه أنَّه لا يوجد نصٌّ يوجب التنصيب عن المدّعي بالحقّ المدني إذا لم يحضر بعد إعلانه، بل يمكن القول: إنَّ المشرّع قد أشار بنصّ المادة (427) من قانون الإجراءات الجزائية – وهو الواجب التطبيق – إلى جواز بدء نظر استئناف المتهم، ولو بدون ردّ من المستأنف ضده، بقوله: “يضع أحد أعضاء المحكمة الاستئنافية تقريرًا في الدعوى يبيَّن فيه ملخص القضية وأسباب الاستئناف والردّ عليها إن وجد”… ويفهم من عبارة ( والردّ عليها إن وُجِد) أن تقرير الملخص الذي تبدأ به إجراءات المحاكمة الاستئنافية يصح وإن لم يتضمن ردًّا على أسباب استئناف المتهم في حال لم يوجد ردٌّ للامتناع عن تقديمه، بل لقد ذهبت المحكمة العليا إلى أبعد من ذلك حينما قضت بأنَّ عدم الردّ على عريضة أسباب استئناف المتهم لا يُعَدُّ سببًا لبطلان حكم المحكمة الاستئنافية، بقولها: “أمَّا قوله إنَّ النيابة العامة لم ترد على استئنافه فإن ذلك لا يُعَدُّ أمرًا مبطلًا للحكم حيث إنَّ عدم الردّ على الاستئناف من المطعون ضدها النيابة العامة بعد إعلانها بعريضة الاستئناف يُعَدُّ في حكم المنكر، كمـا جاء في عريضة الاستئناف والواجب على المستأنف إثبات دعواه “استئنافه” بصرف النظر عن ردّ الطرف الآخر عن طعنه.” (حكم الدائرة الجزائية الصادر بجلسة ٣/٣/٢٠١٤م في الطعن رقم (٥٢١٤٣) القواعد والمبادئ القضائية الجزائية العدد٢١، ص١١١).
الردُّ على الرأي القائل بوجوب التنصيب عن المستأنف ضده:
يستند القائلون بوجوب التنصيب عن المستأنف ضده إلى نصّ المادة (116) من قانون المرافعات على أساس أنَّه مدّعى عليه أمام محكمة الاستئناف، والردُّ على ذلك: إنَّ هذا النص لم يورد ضمن القواعد الخاصة بالطعن بالاستئناف في القانون المذكور، بل إنَّ ما ورد فيها، هو نصُّ المادة (286) التي بينت ما يجب اتّباعه في حال امتناع المستأنف ضده عن الردّ، بقولها: “وإذا امتنع أيّ من المستأنف أو المستأنف عليه عن الردّ على الاستئناف الأصلي أو الاستئناف المقابل أو الفرعي إذا كان لا يزال قائمًا تصدر المحكمة حكمها فيه”، وبذلك قضت المحكمة العليا بقولها: ((ومن خلال اطلاع الدائرة على أوراق القضية فإنَّها تجد أن مانعي الطاعنين غير منتجة؛ لأنَّ الثابت في الأوراق إعلان عريضة الاستئناف لمحامي المستأنف ضده في جلسة….، فبحصول الإعلان للمستأنف ضده بعريضة الاستئناف تنعقد الخصومة وليس بالردّ على الاستئناف كما ذهب إليه الطاعنان، ومعلوم أنَه في حالة عدم الردّ على الاستئناف، رغم الإعلان به، تصدر المحكمة حكمها فيه وفقًا لمقتضيات المادة (286) مرافعات))، (حكم الدائرة التجارية في جلستها المنعقدة بتاريخ 29-9-2010م في الطعن رقم “42279”).
ومفاد ما تقدَّم: أنَّ مركز المستأنف ضده لا يُعَدُّ ذات المركز القانوني للمدّعى عليه في الدعوى الأصلية، ومن ثم لا تنطبق عليه الأحكام الإجرائية المتعلقة به.
سلطة المحكمة الاستئنافية بشأن الاستئناف المرفوع من المتهم:
تُعَدُّ محكمة الاستئناف الجزائية محكمة طعن، ولذلك فإنَّها مقيدةٌ في قضائها في الدعوى المستأنفة بمصلحة الطاعن (المتهم المستأنف)، ونتيجة لذلك فإنَّه في حال رفع المتهم _ منفردًا _ استئنافًا فإنَّ سلطتها تقتصر على تعديل الحكم المستأنَف لمصلحته أو تأييده بحالته عملًا بنصّ المادة (426) إ.ج في فقرتها الأخيرة، بقولها: “أمَّا إذا كان الاستئناف مرفوعًا من غير النيابة العامة، فعلى المحكمة تأييد الحكم أو تعديله لمصلحة رافع الاستئناف”، والمحكمة الاستئنافية تستطيع تقرير ذلك في حال حضور النيابة العامة فقط، وإن لم يحضر المدّعي بالحق المدني أو لم يقدم ردًّا على استئناف المتهم؛ لأنَّ رفع هذا الاستئناف يطرح القضية الجزائية المحكوم فيها أمام محكمة الاستئناف للفصل فيها من جديد في الواقع والقانون، ويجب عليها أن تنظرها على أساس ما يقدّم لها من دفوع وأدلة جديدة، وما كان قد قُدِّم من ذلك أمام محكمة الدرجة الأولى من المدّعي بالحقّ المدني المستأنف ضده، وقد يكون فيما قدَّمه وحُكِمَ له بناءً عليه ما يُعَدُّ كافيًا لتأييد الحكم المستأنف، وإن يُرد على استئناف المتهم.
علاوة على ذلك: فإنَّ دعوى المدّعي بالحقّ المدني، هي دعوى تبعية للدعوى الجزائية المطروحة أمام المحكمة الاستئنافية بناءً على استئناف المتهم، والنيابة العامة بصفتها الخصم الأصلي فيها حضورها وجوبي للسير في إجراءات المحاكمة الاستئنافية، وبذلك يصحُّ للمحكمة الفصل فيها:
فإن قضت ببراءة المتهم المستأنف لعدم الجريمة أو لعدم ثبوتها قضت تلقائيًا بعدم اختصاصها بنظر الدعوى المدنية أو بعدم قبولها حتى وإن حضر المدّعي بالحقّ المدني، وإن قضت بتأييد الحكم المستأنف بإدانة المتهم المستأنف بقي المدّعي بالحقّ المدني محكومًا له كما كان وبحكم نهائي وإن لم يحضر.
مما تقدّم نخلص إلى:
عدم استلزام تقديم ردّ على استئناف المتهم من المدّعي بالحقّ المدني إذا تمّ إعلانه لشخصه بعريضة الاستئناف وامتنع عن الردّ أو الحضور، ومن ثم لا يتمُّ التنصيب عنه لأجل تقديم ردّ عنه أو إحضاره قهرًا، ويجوز لمحكمة الاستئناف عند امتناع المدّعي بالحق المدني بصفته مستأنفًا ضده عن الردّ على استئناف المتهم السير في إجراءات نظره والحكم فيه وأن لم يرد.
والله أعلم بالصواب وهو الهادي إلى سواء السبيل..
– أستاذ القانون الجنائي (المساعد)
اكتشاف المزيد من الصحيفة القضائية |
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.


لا تعليق