القاضي الدكتور صالح عبدالله المرفدي
تمهيد:
من المسلم به أن حق التقاضي وحق الطعن، من الحقوق الدستورية التي لا نقاش فيها، ومن ثم، لا يمكن حرمان أحد من هذا الحق، وعلى ذلك، فالأصل أن الجهات القضائية، بغض النظـر عن نوعها ودرجاتها، تملك الولاية للنظر في مختلف النزاعات، التي تنشأ بين الأفـراد بينهم البين، أو بينهم وبين أشخاص القانون العام.
وعلى العكس من ذلك، فإن هناك جملة من النزاعات التي تخرج عن سلطة واختصاص القضاء بنظرها، وهي ما يعبّر عنها “بأعمال السيادة أو أعمال الحكومة”. حيث تُعدّ أعمال السيادة من أهم المفاهيم في العالم المعاصر، والتي تتناقض إلى حد كبير مع “مبدأ المشروعية” أو خضوع الدولة للقانون، حيث نجد مع هذا المصطلح، تراجع خضوع الدولة لرقابة القضاء، من خلال نزع اختصاصه بالنظر في المنازعات المتعلقة بها، وبناءً على ذلك، فهي تعمل من خلاله فوق كل المؤسسات، وقد تلغي الحريات الفردية والجماعية أو تقيدها.
ومن هذا المنطلق، سندرس في هذا البحث وبايجاز شديد، نظرية أعمال السيادة؛ كونها تُعدّ قيدًا على اختصاص الجهات القضائية، وبالذات القضائين الإداري أو الدستوري احيانًا، وذلك في خمسة محاور: نتناول في الأول مفهوم، وفكرة، ومبررات أعمال السيادة، و نتطرق في المحور الثاني للتميّز بين أعمال السيادة واعمال الادارة، ونأخذ نموذجا لذلك الموقف المصري، ونتحدث في الثالث لموقف الفقه الإسلامي، ونستعرض في المحور الرابع موقف المشرع اليمني، ونخصص الخامس لبعض المقترحات والتوصيات المتواضعة، ونختم البحث بخلاصة مختصرة.
المحور الأول: مفهوم، وفكرة، ومبررات أعمال السيادة:
–أولا: المفهوم:
إن أعمال السيادة أو أعمال الحكومة، هي طائفة من الأعمال التي تباشرها سلطة الحكم في الدول؛ من أجل الحفاظ على كيان الدولة، من أرض وشعب وسلطة؛ لمواجهة أخطار خارجية، أو مواجهات داخلية عامة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، تنظيم سلطات الدولة ونظام الحكم، والعلاقة بين السلطات، والسياسة الاقتصادية لاسيما النقدية!! والأعمال المتعلقة بالدفاع، وعقد المعاهدات، وإعلان الحرب والصلح والتنازل، وتنظيم القوات المسلحة وتدريباتها، وإعلان الأحكام العرفية وإنهائها، وكذلك الإجراءات والتدابير التي تتخذ في حالات الحرب، أو الكوارث الطبيعية، من فيضانات وبراكين وزلازل وأوبئة وجوائح، وما شابه ذلك..
وتأسيسًا على ما تقدم، فإن أعمال السيادة من أخطر امتيازات الإدارة على الإطلاق؛ لأن الإقرار لعمل من أعمال الإدارة، بأنه من أعمال السيادة أو الحكومة، يقتضي إخراجه من رقابة القضاء، ويضفي عليه حصانة مطلقة، تبعده عن دعوى الإلغاء ودعوى التعويض، بل أنه احيانا، قد تبعده عن رقابة القضاء الدستوري، بالرغم من مخالفتها وخرقها للدستور، ولو كانت أعمال سياسية بحتة!
–ثانيا: فكرة نظرية أعمال السيادة:
بدأت فكرة أعمال السيادة في الظهور لأول مرة بفرنسا، في ظل ملكية يوليو 1830- 1848، إذّ كان أول حكم طبّق هذه الفكرة، هو قرار مجلس الدولة الفرنسي (القضاء الإداري الفرنسي)، الصادر في أول مايو 1822، ثم تطورت هذه الفكرة إلى أن أصبحت تشمل عدة ميادين، قد تحكمها معايير سياسية أكثر منها قانونية، وقد امتدت فكرة البواعث السياسية حتى لقرارات حديثة، ومنها القرار الذي امتنع فيها مجلس الدولة، عن النظر في إجراء تجارب نووية سنة 1995. حيث تحوّل مجلس الدولة عن هذا الاجتهاد. ومع مرور الزمن والأحداث، أصبحت أعمال السيادة في فرنسا محصورة بقائمة من القرارات، وفي مجالين أساسين بالتحديد، هما علاقة السلطة التنفيذية بالسلطة التشريعية، والعلاقات الخارجية للدولة، ولم تتوسع هذه النظرية، لتشمل ادارة الدولة داخليا في علاقتها بالأفراد، بعكس مدلول أعمال السيادة في الدول العربية، الذي ما زال يشملها حتى اللحظة!
–ثالثا: مبررات النظرية:
حاول بعض فقهاء القانون، تبرير نظرية أعمال السيادة بعدة تبريرات، أهمها:
1- إن حصانة القرارات المتعلقة باعمال السيادة، هي وليدة تصالح بين السلطتين التنفيذية والقضائية، أصبح بمقتضاه، أن تراقب الثانية اعمال الأولى، فيما عدا أعمال السيادة.
2- إن أعمال السيادة تصدرها الحكومة؛ مما يستوجب منطقياً، أن لا تراقبها فـــي هذا الشأن الا سلطة سياسية، وهي البرلمان دون المحاكم، وهو ماجسدته تمامًا في النصوص الدستورية.
3- إن سلامة الدولة مقدم أحيانا على تطبيق القانون، فالقانون وسيلة وليست غاية، أما بقاء الدولة وكياناتها الاساسية، فهي الغاية والهدف الأساسي، وعندما تصطدم الوسيلة والهدف، يبقى الأخير هو الأهم.
4- إن هذه النظرية تستند إلى اعتبارات عليا، قد تكون خفية ليس من الصالح العام، أو من الممكن مناقشتها من قبل القضاء.
5- إن خضوع أعمال السيادة للرقابة، يؤدي الى خشية الحكومة وترددها في اتخاذها للقرارات، التي تحدد سياسات الدولة، ومصلحتها وأمنها وسلامتها.
المحور الثاني: تمییز العمل السيادي عن الإداري:
قد تتشابه وظيفة الدولة وأجهزتها من الناحية السياسية والإدارية، لذلك من الأهمية، التفريق بين هذة الوظيفة أو تلك؛ لأن الأمر المترتب عليه هو، عدم خضوع أعمال الدولة السياسية لرقابة القضاء؛ اعمالا لمبدأ اعمال السيادة، وخضوعها للقضاء في الأعمال الادارية؛ انطلاقا من “مبدأ المشروعية”.
–أولا: معايير التمييز:
لابد من إيجاد معايير قانونية مناسبة؛ تسهّل للقاضي التمييز بينهما؛ لمعرفة ما يعتبر عملا إداريًا وما يعتبر عملا سياديًا، وأهم هذه المعايير هي:
1- معيار الباعث: ويقصد به الهدف من إصدار السلطة التنفيذية لأعمالها الإدارية، فإذا أصدرت السلطة عملاً من الأعمال، وكان الباعث عليه سياسيًا، فإنه يعتبر من أعمال السيادة ولا يخضع بالتالي لرقابة القضاء الإداري, أما إذا كان الباعث غير سياسي، فإن العمل الصادر يُعدّ عملا إداريًا، ويخضع بالتالي لرقابة القضاء الإداري، شريطة عدم التوسع في نطاق الأعمال، حتى لا تؤدي في تطبيقها إلى انتهاك حقوق وحريات الأفراد.
2- المعيار الموضوعي: يقوم هذا المعيار على أساس، البحث في طبيعة العمل الصادر عن السلطة التنفيذية، فإذا كان العمل حكوميًا، فهو من أعمال السيادة، وبالتالي يخرج من نطاق رقابة القضاء، أما إذا كان عمل الإدارة عملا إداريًا مجردًا، فإنه لا يعتبر من أعمال السيادة، وبالتالي يخضع لرقابة القضاء.
3- معيار التنفيذ: يرى بعض الباحثين، أن أعمال السلطة التنفيذية، تصبح أعمالا حكومية، إذا ما اتخذت لتنفيذ أحكام من الدستور، وأعمال إدارية، إذا ما تعلقت بتنفيذ قانون عاد.. وقد أنتقد هذا المعيار؛ لأنه يؤدي إلى الخلط بين الأعمال الإدارية وأعمال السيادة؛ لأن كثير من الأعمال التي يعتبرها القضاء أعمال سيادة، ليست تنفيذ لأحكام ونصوص الدستور، كما أن كثيرا من الأعمال الإدارية، هي تنفيذ مباشر لبعض أحكام الدستور، ولم يمنحها القضاء صفة أعمال السيادة.
4- معيار الحصر القضائي: يقرّ فقهاء القانون العام، بعجزهم عن وضع معيار جامع لأعمال السيادة، بحيث يكون كاشف عن طبيعة التمييز، بين الأعمال الإدارية العادية والأعمال الحكومية، وانتهى الأمر بالقول، بأن العمل الحكومي: “هو كل عمل يقرر له القضاء الإداري هذه الصفة”.
–ثانيا: موقف القضاء والفقه والمشرع المصري:
تبنى (القضاء المصري) موقفًا متوازنًا، نجده في بعض أحكامه ومنها حكم النقض القائل: “إن المحاكم هي المختصة، على ما جرى به قضاء هذه المحكمة، بتقرير الوصف القانوني للعمل الصادر من السلطات العامة، وما إذا كان يعدّ من أعمال السيادة أو اعمال الادارة، فاذا تحققت الاولى، لا يكون لها أي اختصاص بالنظر فيه”.
كما فصّل (الفقة المصري) في مسألة، التمييز بين أعمال السيادة عن الأعمال الإدارية العادية، وأشار فقهاء القضاء الإداري، بأن القرارات ذات الصبغة السياسية البارزة، هي مايكون لها اعتبارات سياسية، فهي تصدر من السلطة التنفيذية، بوصفها سلطة حكم! فينعقد لها في نطاق وظيفتها السياسية، سلطة عليا لتحقيق مصلحة الجماعة، والسهر على احترام دستورها، والإشراف على علاقاتها مع الدول الأخرى، وتأمين سلامتها وأمنها في الداخل والخارج.. وأضافوا، بأن الأعمال التي تصدر في هذا النطاق، غير قابلة بطبيعتها لأن تكون محلا ً للتقاضي؛ لما يكتنفها من إعتبار سياسي، يبرر تخويل السلطة التنفيذية، الحق في اتخاذ ما ترى فيه صلاح للوطن وأمنه وسلامته، دون تعقيب من القضاء، أو بسط الرقابة عليها منه.
أما فيما يتعلق (بموقف المشرع المصري)، فلم يورد تعريف لأعمال السيادة، والتي نصت عليها المادة 17 من القانون رقم 46 لسنة 1972 “بشأن السلطة القضائية”، وإن كانت قد صرحت بمنع المحاكم من نظرها، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كما لم تتعرض المادة 11 من “قانون مجلس الدولة” رقم 47 لسنة 1972، لتعريف أعمال السيادة، واقتصرت بالتصريح على خروج هذه الأعمال، عن ولاية المحاكم الإدارية.
المحور الثالث: موقف الفقه الإسلامي:
الأصل أن القضاء الإداري في الفقه الإسلامي، يتمثل في “ولاية المظالم”، وهـو قضـاء شرعي أصيل؛ لأن سبب نشأته في الأساس، تتمثل في إخضاع أصحاب النفوذ للقضاء بينما كان تأسيس القضاء الإداري الغربي؛ نتيجة لظروف تاريخية؛ بسبب الصراع الذي كان واقعاً بين الإدارة والقضاء.
ومن زاوية أخرى، فإن مصدر القواعـد الـتي تحكم ولاية المظالم، هـي نصـوص الـوحي كتابـاً وسـنة، وفيهـا مـا هـو قطعـي وما هو ظـني، يـتم التوصل إليه عن طريق الاجتهاد والاستنباط، في إطار الكليات والمبادئ الشرعية القطعية, في حـين أن الأحكام التي تسير القضاء الإداري، هي أحكام ناتجة عن اجتهادات بشرية، فهي من وضـع رجـال القضاء الإداري أنفسهم، وهذا يستلزم قابليتها للتغيير والتبديل، بحسب الظروف وتجدد الحاجة.
وغني عن البيان، أن الضمانات المقّررة لحماية مبدأ المشروعية في الفقه الإسلامي، أكثر فعاليـة؛ وهـذا بسـبب تعلقهـا بفكرة الثـواب والعقـاب، فالمسـلم مطالـب بفـرض رقابته علـى الإدارة، وهـذا وفقـاً للمبـدأ المقـّرر “بالأمـر بـالمعروف والنهـي عـن المنكـر”، الـذي يتكـاتف في أدائه عموم علماء الاسلام. أما القانون الوضعي، فإنه لا يحث الأفراد على مباشرة الرقابة علـى الإدارة بصفة عامة، بــــل في بعــــض الأحيــــان، يقــوم بفــــرض الإجـــراءات والضوابط، من أجل الحد من هذه الرقابة، من خلال إعـلان حالـة الطـوارئ، وسـن قـوانين للحـد مـن الرقابـة، ِلا سـيّما في ظل الحالات الاستثنائية.
و لا يفوتنا أن ننوه، بأن ولايـة المظالم شرعًا، لم تَعرف في تاريخهـا وضـع أحكـام تحـد مـن اختصاصها، وتقضي باستبعاد طائفـة مـن الأعمـال الإداريـة عـن دائـرة النظـر. بينمـا ابتدع القضـاء الإداري “نظريـة السـيادة”، بحيـث اسـتبعد فئـة مـن الأعمـال الإداريـة عـن دائـرة اختصاصـه؛ ممـا جعل هـذه الفئـة مـن الأعمـال الإداريـة، تكون في منـأى عـن الرقابة القضائية
وتجدر الإشارة بالقول، بأن الشريعة الإسلامية توازن بين مصلحة الفرد والدولة، فمن جهة تجد أن حق الفرد أقوى من حق الدولة، و إن تدخل الدولة في حريات الأفراد وحقوقهم، إنما يكون في حدود الضرورة والصالح العام، وتطهير المجتمع من الاستغلال والفساد. ومن جهة اخرى، تجد أن سمو أعمال الدولة على أعمال الأفراد في دائرة الحفاظ على كيان الأمة، أو الشعب، أو على أساس الحفاظ على المصالح العليا، ولو على حساب الأفراد؛ لأن مصلحة الجماعة مقدمة على مصالح الأفراد.
المحور الرابع: موقف المشرع اليمني:
لم يعبّر المشرع الدستوري اليمني، عن وجهة نظرة من فكرة أعمال السيادة، فلا توجد نصوص صريحه ولا ضمنيه، تؤكد تحصين أو عدم تحصين القرارات السيادية، التي تصدرها السلطة التنفيذية ممثلة بالرئيس أو الحكومة، بل وصل الأمر الى أن الدستور اليمني، لم ينص على “مبدأ المشروعية” صراحة، والذي يقضي بخضوع القرارات الادارية لرقابة القضاء، بعكس الدساتير الاخرى، الذي نصت بذلك صراحةً.
وحريًا بنا التطرق لبعض النصوص الدستورية، والتي تُعدّ من اعمال السيادة، بعد أن تعرفنا على معالم هذة النظرية سلفًا، وبالعودة للدستور اليمني، نجد أنه قد تناول بعض من هذة الاعمال ومنها:
١- ما تطرقت اليه المادة (119) من اختصاصات لرئيس الجمهورية، حيث يتضح أن الفقرات التي شملتها تلك المادة، تندرج ضمن أعمال السيادة، ماعدا الفقرة (9) التي تحمل طابع اداري لا سياسي.
٢- تحدثت المادة (129) من الدستور، عن بعض الصلاحيات لرئيس الجمهورية التي من الممكن اعتبارها من أعمال السيادة، كإعلان حالة الطوارئ، والتي لا تعلن إلا بسبب قيام الحرب، أو الفتنة الداخلية، أو الكوارث الطبيعية.
٣ – استعرضت المادة (92) من الدستور، مجموعة من الاختصاصات التي تدخل ضمن مفهوم أعمال السيادة، والذي من المفترض، أن يصادق عليها مجلس النواب، كالمعاهدات، والاتفاقيات السياسية، والاقتصادية الدولية، ذات الطابع العام، وأياً كان شكلها أو مستواها، خاصة تلك المتعلقة بالدفاع، أو التحالف، أو الصلح والسلم، أو تنظيم مسائل الحدود، أو التي قد يترتب عليها التزامات ماليـة على الدولـة، أو التي يحتاج تنفيذها إلى إصـدار قانـون.
وتماشيًا مع ما تم ذكره، يتضح أن هذه العينة من مواد الدستور اليمني، جاءت متناثرة ومتفرقة داخل الوثيقة الدستورية، ولقد كان من الضروري، حصر أعمال السيادة حصراً واضحًا في صلب الدستور، لأن الاثر المترتب على ذلك، قد يقتضي عدم المساس بهذه الأعمال، “وإن كنت أميل” الى ضرورة التعويض عنها على الأقل، لا سيما إذا كانت متعلقة بحقوق وحريات أفراد المجتمع.
ولعله من المفيد أن نؤكد اجمالاً، بوجوب تقنين أعمال السيادة في الدستور، وأن يوضع لها مكانها في التشريع؛ كي تعمل الحكومة أو مؤسسة الرئاسة جنبا إلى جنب، في ظل سيادة الدستور والقوانين النافذة، واحترام حقوق الإنسان، طالما وأن الدستور قد نص في المادة (110) منه، على أن يعمل رئيـس الجمهورية والحكومة، على تجسيد إرادة الشعب، واحترام الدستور والقانون، والالتزام بالتداول السلمي للسلطة، والإشراف على المهام السيادية المتعلقة بالدفاع عن الجمهورية، وتلك المسائل المرتبطة بالسياسة الخارجية للدولة، وأن يمارسا صلاحياتهما على الوجـه المبيـن في الدستــور.
المحور الخامس: النتائج والتوصيات:
–أولا: النتائج:
إن نظرية أعمال السيادة، مُجرّد نظرية إستثنائية وأحوال خاصة، تمنع يد القضاء الإداري عن النظر فيها، وهي فكرة أو حيلة قررها القضاء الفرنسي، في أحوال خاصـة وفـي زمـن بعيـد، وتلقفتها الكثير من الدول، واستخدمتها في الظروف الراهنة؛ بمـا يتماشـى ومـصالح حكامها ومسؤوليها، شأنها شأن نظرية الضرورة. . واستخلاصًا لما سبق، فإن التوسع في فكرة الضرورة والأعمال السيادية، قد يؤدي إلي تعطيل حكم القـانون، وإلى رفع يد القضاء عن رقابة كثير من تصرفات الإدارة؛ تحت ذريعة الأعمال السيادية، وهو ما يتنافى مع ضمانات الحقوق والحريات الأساسية.
وفي المحصلة، فإن هذه التحولات الحاسمة، سواءً كانت على المستوى السياسي؛ باعتبارها من اعمال السيادة، أو على المستوى الإداري، باعتبارها من أعمال الإدارة، بحاجة إلى فرز وتأصيل؛ لبيان مدى مشروعيتها الدستورية والقانونية.. ولقد كان لغياب القضاء ولا سباب عديدة “لا يتسع المجال هنا لذكرها”؛ الدور الأبرز في إبرام تلك الاتفاقيات والتسويات السياسية، وإصدار والقرارات الإدارية، على نحو مخالفة بعضها لأحكام الدستور والقوانين النافذ، ولنا في سبيل ذلك، ما اتخذه القضاء المصري، من موقف قانوني شجاع، بإصدار حكم قضائي ببطلان تنازل الحكومة، عن أراضي “جزيرتي تيران وصنافير” للسعودية، ولو كانت وفق معاهدة موقعة ومصدقة من الجهات الحكومية بين الدولتين؛ طالما وقد خالفت الدستور مخالفة صريحة!!.
وصفوة القول، أن من يجب أن يقرر ويكيّف هذه الأعمال، إنما هو القضاء الإداري ولـيس الإدارة.. فترك أمر تحديد هذه المسائل إلى هذه الأخيرة، سيخلق لا محالة حالات مـن الاسـتبداد والتعسف، وسيؤدي دون شك إلى الفوضى والإضطراب.. ويجب الأخذ بالحسبان في نهاية هذا البحث، “ولازالة أي لبس أو تأويل”، بأنني كنت حريصًا وما زلت، “وبما لا يدع مجالًا للشك”، على عدم إبداء أي آراء سياسية، وأن يكون الغرض من البحث؛ الخوض في المسائل الدستورية والقانونية المُجرّدة، لوضع حد معقول “قدر الإمكان”، لوقف نزيف مخالفة وخرق الدستور والقوانين النافذة!! استنادًا لما سبق ذكره، يمكن وضع بعض المقترحات والتوصيات، مع بيان أهميتها وأسبابها اجمالاً، ونوجزها بالآتي:
–ثانيا: التوصيات:
١ – نوصي المشرع الدستوري، بالنص صراحة في الدستور على خضوع كل الأفراد والجهات الحكومية “بما فيها مؤسسة الرئاسة”، لرقابة القضاء؛ انطلاقا من مبدأ المشروعية، المتعارف عليه في كل دساتير دول العالم.
٢- نقترح على المشرع الدستوري، بالنص صراحة في الدستور، على عدم خضوع أعمال السيادة، لرقابة القضاء الإداري، وخضوعها لرقابة القضاء الدستوري، إذا كانت تلك الأعمال، تخرق وتنتهك وتخالف نصوص الدستور صراحة.
٣- نهيب ونأمل من مجلس القضاء، بالاسراع في تشكيل الدائرتين “الدستورية والادارية”؛ لما للأولى من أهمية قصوى، في مراقبة أي إجراءات أو خطوات أو قرارات، اتخذت بالانتهاك والخرق والمخالفة الصريحة للدستور ولما للثانية من خصوصية؛ باعتبارها مرجعًا قضائيا لتطبيق مبدأ المشروعية على الحكام والمحكومين.
٤- نظرا لعدم وجود قوانين تنظم عمل الشعبة الدستورية بالمحكمة العليا والمحاكم الإدارية، وحيث أن الشعبة الدستورية نص على تشكيلها قانون السلطة القضائية، بينما شكلت المحاكم الادارية وفقا لقرار مجلس القضاء، رقم (177) لسنة 2010، ولما كانت الضرورة العملية، تقتضي ايجاد تشريع يحدد اختصاصات الشعبة الدستورية والمحاكم الادارية بشكل مفصل، وتحديد آلية عملهما في نظر الدعوى، والسير بإجراءات الفصل فيها، وإصدار الأحكام بشأنها، وبيان طرق الطعن بالاحكام، واجراءات تنفيذها، ونحو ذلك من قواعد اجرائية، تنظم عملهما بشكل واضح وجلي، وحيث أن التجربة أثبتت عجز قانون المرافعات عن ملئ الفراغ التشريعي الاجرائي لنظر الدعاوى والطعون الدستورية والادارية، وعملا بصلاحيات المجلس وفق احكام الفقرتين (أ و د) من المادة (109) من قانون السلطة السالف الذكر، وتطبيقًا للاختصاصات الواردة بنص الفقرة (2) من المادة (3)، من اللائحة التنظيمية لوزارة العدل رقم (22) لسنة 2006، وحرصًا على صيانة الدستور، ولما تقتضيه المصلحة العامة من إصدار “تشريعات الضرورة”.
٥- من المستحسن على مجلس القضاء الأعلى، إصدار قرار بتشكيل لجنة من ذوي الشأن، تختص بتقديم مشروع لائحتين تنظيمية، الأولى/ لأعمال الشعبة الدستورية، والثانية/ لاعمال المحاكم الإدارية، بما فيها الشعبة الادارية بالمحكمة العليا؛ سدًا للفراغ التشريعي؛ وتحقيقًا لمبدأ سيادة أحكام الدستور والقوانين النافذة على الحكام والمحكومين.
ولا مناص من القول، بأن أهمية البحث، وطرح المقترحات والتوصيات السالفة الذكر، تكمن في أن اليمن شهدت تحولات سياسية متسارعة، منذ عام ٢٠١١ وما زالت حتى اللحظة، واتخذت فيها إجراءات حاسمة، سواءًا على شكل اتفاقات أو مبادرات أو تسويات سياسية، كالمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، واتفاق السلم والشراكة، وأكثر من اتفاق تم في العاصمة السعودية الرياض، أو على شكل بيانات أو قرارات سياسية، كالبيان بنقل السلطة الرئاسية في عدن، أو قرارات اقتصادية، كالقرار الأخير برفع سعر الدولار الجمركي الصادر من مجلس الوزراء بعدن.
هذا والله أعلم، وهو الموفق للصواب.
*عضو المحكمة العليا للجمهورية
اكتشاف المزيد من الصحيفة القضائية |
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
لا تعليق