تقرير – القضائية
في ممرات النيابة العامة، حيث تختلط رائحة الورق برائحة القهوة الصباحية، تبدأ الحكاية اليومية لوكيل نيابة خورمكسر الابتدائية بالعاصمة عدن القاضي بسام السيد، يعمل تحت ضغط لا ينتهي، تتزاحم الملفات على مكتبه، فيما يتوافد المراجعون بأعينٍ مرهقةٍ وأصواتٍ تملؤها الترقّب.
هنا، في هذا المكتب الصغير الذي يشهد صراع العدالة مع ضيق الإمكانيات، تتجسد واحدة من أصعب المهن، وأكثرها حساسية في المنظومة العدلية.
بداية يوم مزدحم
عند الساعة الثامنة صباحًا، يصل وكيل نيابة خورمسكر إلى مكتبه قبل وصول بعض الموظفين حيث يتصفح جدول الجلسات، ثم يراجع محاضر الضبط التي وردت من مراكز الشرطة في اليوم السابق.
يقول القاضي بسام السيد: “يوم واحد قد يحمل أكثر من عشرين قضية متنوعة”، وهو يقلب بين أوراق التحقيق، ويضيف قائلًا: “تبدأ بقضية اعتداء وتنتهي بجريمة قتل، وبينهما ملفات أسرية، وغالبًا بلاغات تتعلق بالنصب والاحتيال أو قضايا المخدرات.. التنوع وحده كافٍ ليستنزف الجهد الذهني قبل أن يبدأ النهار”.
ما أن يبدأ التحقيق الأول حتى يصطّف عدد من المواطنين خلف الباب بانتظار أدوارهم… أحدهم جاء يشكو تأخر البت في قضية ابنه الموقوف منذ أسابيع، وآخر يبحث عن أمر قبض لمتهم فارّ، ورغم الزحام، يحاول وكيل النيابة أن يمنح كل قضية حقّها من الوقت والاهتمام.
بين القانون والإنسان
على طاولة الاستجواب، لا يجلس وكيل النيابة القاضي بسام السيد بوصفه مجرد جهة اتهام، بل عينًا للعدالة تحاول أن ترى المشهد من جميع الزوايا.
“التحقيق ليس فقط طرح الأسئلة”، يقول القاضي السيد، بابتسامة متعبة: “بل هو فهم للظروف، وتمييز بين الخطأ المقصود والزلّة التي قادت إلى الجريمة”.
يحكي القاضي بسام السيد عن مواقف كثيرة يتجلّى فيها الجانب الإنساني وسط قسوة الملفات: “في إحدى القضايا، كان المتهم شابًا تورّط في سرقة بسيطة لتوفير دواء لوالدته، بعد سماع أقواله، طلب وكيل النيابة من أحد المحامين الحاضرين مساعدته قانونيًا…”، “العدالة ليست قسوة، بل موازنة بين الحقّ والرحمة”، يعلّق القاضي بسام السيد وهو يغلق الملف…
الضغط الإداري والمعنوي
يتعامل وكلاء النيابات في العاصمة عدن مع مئات القضايا شهريًا، في ظلّ محدودية الكادر وغياب بعض الإمكانيات الأساسية مثل أجهزة الحفظ الإلكترونية، أو حتّى قاعات مناسبة للتحقيق.
يقول وكيل نيابة خورمسكر الابتدائية: “تخيل أن تعمل على عشرات الملفات الورقية يوميًا، دون نظام إلكتروني أو أرشيف متكامل، ومع ذلك مطلوب منك أن تصدر قرارات دقيقة، وفي الوقت المحدد”، مضيفًا: “إن المسؤولية هنا تتضاعف؛ لأنَّ أيّ تأخير قد يعني بقاء مظلوم خلف القضبان، أو ضياع حقّ لمجني عليه”.
لكن الضغط لا يتوقف عند الكمّ، بل يمتد إلى الجانب النفسي.. فوكيل النيابة يتعامل يوميًا مع قضايا مؤلمة: جرائم قتل أسرية، واعتداءات، وانتهاكات طفولة، ومآسٍ اجتماعية تترك أثرًا في النفس مهما حاول أن يتعامل معها بموضوعية.
العمل الجماعي بين النيابة والضبط القضائي
لا يكتمل عمل النيابة إلَّا بتنسيق وثيق مع مأموري الضبط القضائي حيث إنَّه من أهم مسؤوليات وكلاء النيابة العامة الإشراف وتفتيش أماكن الاحتجاز في أقسام الشرطة بشكل دوري.
“في كثير من الأحيان، نواجه تأخرًا في إرسال محاضر جمع الاستدلالات، أو في تنفيذ أوامر القبض، ما يربك تسلسل الإجراءات” يقول وكيل نيابة خورمسكر الابتدائية، مؤكّدًا أنَّ التنسيق الميداني المستمر بين الجهتين، هو ما يضمن سير العدالة بسلاسة.
ويضيف القاضي بسام السيد: “حين تكون العلاقة تكاملية بين النيابة والشرطة، تنخفض نسبة الأخطاء الإجرائية، وتتحقّق العدالة بوتيرة أسرع”.
شهادة من زميل في الميدان
يقول أحد مساعدي وكلاء النيابات: “لا يدرك كثير من الناس كمّ الضغط الذي يتحمله وكيل النيابة.. فهو القاضي والمحقّق والمستشار في آنٍ واحد.. يتعامل مع أطراف متنازعة، وضغوط مجتمعية، وأحيانًا تهديدات، لكنَّه رغم ذلك يواصل عمله بضمير”.
ويضيف: “إنَّ كثيرًا من القضايا التي تُحال للمحاكم تحمل بصمة إنسانية واضحة من وكلاء النيابات الذين اجتهدوا في جمع الأدلة، والتثبت قبل إصدار القرار”.
تقدير القيادة القضائية
ويشير وكيل نيابة خورمكسر الابتدائية إلى أنه بالرغم من التحديات، إلا أن متابعة معالي النائب العام للجمهورية القاضي قاهر مصطفى ورئيس نيابة استئناف جنوب عدن القاضي وضاح باذيب تساهم في تسهيل عمل الوكلاء، وحل كثير من الصعاب الإجرائية، وتخفيف الروتين الذي قد يخلق مشاكل مع المتقاضين وأجهزة الضبط القضائي.
وفي حديثه هذا، أعرب وكيل النيابة عن خالص شكره وتقديره للنائب العام ورئيس نيابة استئناف جنوب عدن لجهودهما ودعمهما المستمر، مستندًا إلى قوله ﷺ: “من لا يشكر الناس لا يشكره الله”.
تحديات على الطريق
رغم الجهود الكبيرة، يواجه وكلاء النيابات تحدّيات ميدانية عديدة، أبرزها تزايد القضايا من دون زيادة موازية في عدد الكوادر العدلية، وغياب وسائل تقنية حديثة لإدارة الملفات والأرشفة، وضعف التنسيق بين الجهات الأمنية والفنية، وقلّة الدعم النفسي والمهني للعاملين في النيابة العامة، فضلًا عن تلك التحديات فهم يحتاجون إلى ضرورة زيادة الدورات التأهيلية.
كلُّ ذلك يجعل من وظيفة وكيل النيابة أحد أكثر المناصب استنزافًا في السلك القضائي، لكنَّها أيضًا من أكثرها تأثيرًا في حياة الناس، وفي ثقة المجتمع بمؤسسات العدالة.
في نهاية اليوم
مع انتهاء الدوام الرسمي، يغلق القاضي بسام السيد، وكيل نيابة خورمسكر الابتدائية آخر ملفٍ على مكتبه، فتعب اليوم يظهر بشكل واضح في ملامحه، لكنَّه يبتسم وهو يقول: “قد لا نغيّر العالم في يوم، لكنّنا نحاول أن نحافظ على ميزان العدالة في حدود ما نقدر عليه”.
يغادر القاضي بسام السيد المكتب متأخرًا، آخذًا معه عدد من الملفات لمراجعتها في المنزل ليأتي غدًا لاستكمال ما تبقى من أعمال.. وبينما تُطفأ الأنوار، يبقى في الممّر صدى عبارة تلخص رسالته: “العدالة لا تعرف الراحة، لكنّها تستحق التعب”.
اكتشاف المزيد من الصحيفة القضائية |
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.


لا تعليق