القاضي الدكتور/ فضل محمد الفهد
في العدد السابق تناولنا شروط أمر التنفيذ في قانون المرافعات والتنفيذ المدني اليمني، وفي هذا العدد نستكمل موضوعنا بتناول شروط أمر التنفيذ وفقًا لأحكام الاتفاقيات الدولية.
لقد عملت أغلب الدول على إفراد نصوص صريحة في تشريعاتها تقضي بأن العمل بالقواعد المقررة في تشريعاتها لا تُخلُ بأحكام المعاهدات المعقودة فيما بينها وبين غيرها من الدول، كون تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية الخاضعة لنطاق تطبيق الاتفاقيات الدولية والإقليمية، وفقًا للأحكام الواردة في هذه الاتفاقيات وليس وفقًا للشروط الواردة في التشريعات الوطنية، على أساس أن القواعد الواردة في الاتفاقيات الدولية تُعدُّ جزءًا من التشريع الوطني، وقد نصَّت المادة (497) من قانون المرافعات اليمني “العمل بالقواعد المتقدمة لا يخل بأحكام المعاهدات المعقودة، التي تعقد بين اليمن وغيرها من الدول في هذا الشأن” .
وقد وقعت أغلب الدول على العديد من الاتفاقيات على الصعيدين الدولي والإقليمي، مثل اتفاقية جنيف المنعقدة سنة 1927م، واتفاقية نيويورك للاعتراف بقرارات التحكيم الأجنبية وتنفيذها المنعقدة في 1958م، فضلًا عن اتجاه العديد من الدول إلى الارتباط فيما بينها باتفاقيات ثنائية خاصة بالاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، كما أبرمت اتفاقية واشنطن لتسوية منازعات الاستثمار بين الدولة ورعايا الدول الأخرى المنعقدة سنة 1965م ، واتفاقية موسكو المنعقدة سنة 1972م، واتفاقية بناما الخاصة بالتحكيم التجاري الدولي المنعقدة سنة 1976م.
وهناك العديد من الاتفاقيات الدولية الإقليمية الصادرة في إطار جامعة الدول العربية، مثل اتفاقية تنفيذ الأحكام الصادرة في عام 1952م، واتفاقية تسوية منازعات الاستثمار بين الدول العربية ورعايا الدول العربية الأخرى الصادرة في عام 1974م، والاتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية في الدول العربية في عام 1980م، واتفاقية الرياض العربية للتعاون القضائي الصادر عام 1983م، واتفاقية عمان العربية للتحكيم التجاري في عام 1987م، وسوف نتناول هذه الاتفاقيات في جزئين على النحو الآتي:
شروط أمر تنفيذ أحكام التحـــكيم وفقًا للاتفاقيات الدولية
اولًا: شروط تنفيذ حكم التحكيم وفقًا لاتفاقية نيويورك
تُعدُّ اتفاقية نيويورك لسنة 1958م بشأن الاعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها من أهم الاتفاقيات الدولية التي تتعلق بمسألة تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، أو الاعتراف بها، سواء تعلق الأمر بالأحكام الواردة فيها، أو بعدد الدول التي انضمت إليها، حيث انضم إليها أغلب دول العالم، فبلغت عام 2008 (152) دولة، منها (15) دولة عربية، مع ملاحظة أن اليمن لم تنضم إلى هذه الاتفاقية حتى الآن.
الحالات المنصوص عليها الخاصة بالاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية، وهي ثمان حالات يجوز فيها للمحكمة المختصة بإصدار أمر تنفيذ حكم التحكيم الأجنبي أن ترفض إصدار أمر التنفيذ:
1ـ لا يجوز رفض الاعتراف بالقرار وتنفيذ الحكم بناءً على طلب الخصم الذي يحتج عليه بالحكم، إلا إذا قدَّم هذا الخصم للسلطة المختصة في البلد المطلوب إليه الاعتراف والتنفيذ الدليل على:
أ) أن أطراف الاتفاق المنصوص عليه في المادة الثانية كانوا طبقًا للقانون الذي ينطبق عليهم عديمي الأهلية، أو أن الاتفاق المذكور غير صحيح وفقًا للقانون الذي خضع له الأطراف، أو عند عدم النص على ذلك طبقًا لقانون البلد الذي صدر فيه الحكم.
ب) أن الخصم المطلوب تنفيذ الحكم عليه لم يعلن إعلانًا صحيحًا بتعيين المحكم أو بإجراءات التحكيم، أو كان من المستحيل عليه لسبب آخر أن يقدم دفاعه.
ج) أن الحكم فصل في نزاع غير وارد في مشارطة التحكيم، أو في عقد التحكيم أو تجاوز حدودهما فيما قضي به، ومع ذلك يجوز الاعتراف وتنفيذ جزء من الحكم الخاضع أصلًا للتسوية بطريق التحكيم إذا أمكن فصله عن باقي أجزاء الحكم غير المتفق على حلها بهذه الطريق.
د) أن تشكيل هيئة التحكيم أو إجراءات التحكيم بالمخالفة لما اتفق عليه الأطراف أو لقانون البلد الذي تم فيه التحكيم في حالة عدم الاتفاق.
ﻫ) أن الحكم لم يصبح ملزمًا للخصوم أو ألغته أو أوقفته السلطة المختصة في البلد التي صدر فيها أو بموجب قانونها صدر الحكم.
2ـ يجوز للسلطة المختصة في البلد المطلوب إليها الاعتراف وتنفيذ حكم المحكمين أن ترفض الاعتراف والتنفيذ إذا تبين لها:
أ ) أن قانون ذلك البلد لا يجيز تسوية النزاع عن طريق التحكيم.
ب) أن في الاعتراف بحكم المحكمين أو تنفيذه ما يخالف النظام العام في هذا البلد”.
ويلاحظ: من هذا النص أن الاتفاقية قد منحت المحكمة المختصة بإصدار أمر تنفيذ حكم التحكيم الأجنبي أن ترفض إصدار أمر التنفيذ في حالات معينة من تلقاء نفسها، وفي حالات أخرى يتعين فيها على المحكوم ضده أن يقدم الدليل على تحقق إحداها؛ لكي تتمكن المحكمة المختصة من رفض إصدار أمر التنفيذ. وسوف نبين هذه الحالات على النحو الآتي:
أولًا: حالات رفض المحكمة تنفيذ الحكم من تلقاء نفسها:
نصت المادة (5/2) من اتفاقية نيويورك بأنه: “يجوز للسلطة المختصة في البلد المطلوب إليها الاعتراف وتنفيذ حكم المحكمين أن ترفض الاعتراف والتنفيذ، إذا تبين لها:
أ ) أن قانون ذلك البلد لا يجيز تسوية النزاع عن طريق التحكيم.
ب) أن في الاعتراف بحكم المحكمين أو تنفيذه ما يخالف النظام العام في هذا البلد.
ويتضح من هذا النص أن هاتين الحالتين لا تحتاجان إلى إثبات، وإنما منحت المحكمة المختصة بإصدار أمر تنفيذ حكم التحكيم الأجنبي أن ترفض إصدار أمر التنفيذ من تلقاء نفسها، دون حاجة للتمسك بذلك من جانب أي طرف من الأطراف.
الحالة الأولى: إذا كان قانون بلد التنفيذ لا يجيز تسوية النزاع عن طريق التحكيم:
أجازت اتفاقية نيويورك في المادة (5/2/أ) للدولة المتعاقدة أن ترفض الاعتراف وتنفيذ حكم التحكيم إذا تبين لها أنه حكم في مسألة لا يجيز قانونها تسوية النزاع حولها عن طريق التحكيم، وتختلف المسائل التي لا يجوز فيها التحكيم من دولة إلى أخرى، بل قد تختلف داخل الدولة الواحدة عند المقارنة بين التحكيم الداخلي والتحكيم الأجنبي أو الدولي، وهو أمر يثير عديد من الإشكاليات أثناء تنفيذ أحكام التحكيم، فقد يتفق الأطراف على تسوية النزاع فيما بينهم عن طريق التحكيم وفقًا لقانون يتفقان عليه يجيز تسوية هذا النزاع عن طريق التحكيم، أو على أرض دولة يجيز قانونها ذلك، وعند صدور الحكم، ومحاولة تنفيذه أمام دولة أخرى، يفاجأ بعد ذلك المحكوم لصالحه، أن قانون الدولة المطلوب لديها التنفيذ لا يجيز تسوية هذه المسألة عن طريق التحكيم، وبالتالي لن يتمكن من تنفيذ هذا الحكم لأنه من غير المتصوّر أن يطلب من دولة تنفيذ حكم تحكيم يمنع قانونها تسويته عن طريق التحكيم.
يجب إذن أن يراعي أطراف التحكيم مسألة قابلية تسوية النزاع بالتحكيم في البلد الذي يقام فيه التحكيم لكي لا يتعرض حكم التحكيم للبطلان، وكذلك في البلد الذي يمكن أن ينفذ فيه حكم التحكيم، لكي لا يرفض القاضي المختص طلب التنفيذ.
الحالة الثانية: أن يكون في الاعتراف بحكم المحكمين وتنفيذه ما يخالف النظام العام في دولة التنفيذ:
تقضي المادة (5/2/ ب) من اتفاقية نيويورك بأنه يجوز للمحكمة المختصة في البلد المطلوب لديها الاعتراف والتنفيذ، أن ترفض الاعتراف وتنفيذ حكم التحكيم الأجنبي إذا كان في الاعتراف بهذا الحكم وتنفيذه ما يخالف النظام العام في هذه الدولة، وعلى القاضي المختص من تلقاء نفسه رفض إصدار أمر وضع الصيغة التنفيذية على حكم التحكيم الأجنبي، وهو شرط تكاد تتفق عليه معظم التشريعات الوطنية، بل إن بعض هذه التشريعات قد أوردت حالة مخالفة حكم التحكيم للنظام العام في الدولة المطلوب لديها التنفيذ من ضمن حالات بطلان الحكم، وأيضًا سببًا لمنع إصدار الأمر بتنفيذه.
ونظرًا لما يقوم به النظام العام، في إطار النظرية العامة للقانون الدولي الخاص في مفهومه الواسع، فإنه يُعدُّ أداة لاستبعاد القانون الأجنبي، بل رفض تنفيذ الحكم الأجنبي، ولاسيما حكم التحكيم، حيث تُعدُّ مخالفة النظام العام، إحدى الأسباب التي تنص عليها القوانين الوطنية لرفض تنفيذ الأحكام الأجنبية، سواء أكانت أحكام قضائية أم أحكام تحكيم.
ثانيًا: حالات رفض طلب التنفيذ بناءً على طلب الخصوم:
لا يجوز للمحكمة في الدولة التي يطلب منها إصدار أمر تنفيذ حكم التحكيم الصادر في دولة أخرى أن ترفض ذلك، إلا إذا قدَّم لها الصادر ضده حكم التحكيم الدليل على أنه مشوب بأحد العيوب التي عددتها الاتفاقية، وليس للمحكمة إثارة أي منها من تلقاء نفسها، وللمحكمة سلطة تقديرية في تنفيذ حكم التحكيم بالرغم من توافر حالة من الحالات المنصوص عليها في المادة (5/1) من الاتفاقية، وسوف نبين هذه الحالات فيما يلي:
الحالة الأولى: عدم أهلية أطراف الخصوم أو أحدهم وفقًا للقانون الذي يحكم الأهلية:
تقضي المادة (5/1/ أ) من الاتفاقية للمدعي عليه أن يتقدم إلى المحكمة المختصة في الدولة المطلوب لديها التنفيذ بطلب رفض الاعتراف وتنفيذ حكم التحكيم إذا أثبت: “أن أطراف الاتفاق المنصوص عليه في المادة الثانية كانوا طبقًا للقانون الذي ينطبق عليهم عديمي الأهلية”. والمقصود بالاتفاق الوارد في المادة الثانية هو اتفاق التحكيم المكتوب، أي أنه يجب على الخصم إثبات أنه أو الطرف الآخر في عقد التحكيم كان غير أهل لإبرام الاتفاق عند توقيعه، وقد استخدمت الاتفاقية كلمة عديم الأهلية، وانعدام الأهلية يتحقق في حالات عديدة، منها ما يتعلق بالسن، ومنها ما يتعلق بعارض يصيب الإنسان كالجنون، أو سفه، أو عته يحجر على تصرفاتهم، ويُعدُّ تصرف فاقد الأهلية غير صحيح.
وقد أخضعت الاتفاقية أهلية الأطراف للقانون الذي يحكم أهلية كل منهم، وبذلك تكون الاتفاقية قد تجاوزت الخلاف القائم بين الدول حول ما إذا كان قانون الجنسية أو قانون الموطن هو الذي يحكم الأهلية. ففي القانون اليمني يرجع في الحالة المدنية للأشخاص وأهليتهم إلى قانون جنسيتهم طبقًا لنص المادة رقم (24) من القانون المدني اليمني رقم 14 لسنة 2002م.
الحالة الثانية: عدم صحة اتفاق التحكيم:
عدم صحة اتفاق التحكيم يؤثر على الاعتراف بحكم التحكيم وتنفيذه، فاتفاق التحكيم يمثل جوهر التحكيم وأساس الحكم، وهو البوابة التي يدخل منها المحكم إلى العملية التحكيمية، حيث يكون عليهم الالتزام بما جاء بالاتفاق وضمن حدوده المحددة وعدم تجاوز ذلك الاتفاق سواء كان على شكل شرط أو مشارطة، لذلك على الخصم الذي يعترض على الاعتراف وتنفيذ حكم التحكيم أن يثبت للمحكمة المختصة المطلوب منها إصدار أمر التنفيذ أن اتفاق التحكيم لم يكن صحيحًا وفقًا لما جاء بنص المادة (5/1/ أ) من اتفاقية نيويورك بأن لا يجوز للمحكمة المختصة أن تمتنع عن تنفيذ الحكم، إلا إذا دفع بها الصادر ضده حكم التحكيم وأقام الدليل على عدم صحة اتفاق التحكيم.
فالفقرة (1/أ) من المادة الخامسة نصَّت على إمكانية إثبات الخصم بقوله: “إن الاتفاق المذكور غير صحيح وفقًا للقانون الذي أخضع له الأطراف، أو عند عدم النص على ذلك طبقًا لقانون البلد الذي صدر فيه الحكم”.
وبناء على النص، فإذا أثبت الخصم المدعي عليه أن اتفاق التحكيم الذي صدر الحكم بناءً عليه غير صحيح، أي باطلٍ أو قابلٍ للإبطال وفقًا للقانون الذي أخضع له أطراف اتفاق التحكيم، وفي حالة عدم وجود مثل هذا الاتفاق فوفقًا لقانون البلد الذي صدر فيه الحكم، فإذا ما أثبت المدعي عليه ذلك فللمحكمة أن ترفض الاعتراف والتنفيذ.
والأصل وفقًا لاتفاقية نيويورك أن تحديد القانون الواجب التطبيق على بطلان اتفاق التحكيم هو القانون الذي اتفق عليه الطرفان، وهو قانون الإرادة، فلأطراف التحكيم إذن سلطة تحديد القانون الذي يحكم اتفاق التحكيم سواء من حيث شروط الانعقاد أو عيوب الإرادة، وكذلك من حيث آثار وانقضاء هذا الاتفاق.
الحالة الثالثة: الإخلال بحقوق الدفاع:
يقصد بالإخلال بحقوق الدفاع في هذه الحالة وفقًا لنص المادة الخامسة، الفقرة (1/ب) على: “أن الخصم المطلوب تنفيذ الحكم عليه لم يُعلن إعلانًا صحيحًا بتعيين المحكم، أو بإجراءات التحكيم، أو كان من المستحيل عليه لسبب آخر أن يقدم دفاعه”. وبالتالي يثبت الإخلال بحقوق الدفاع إذا لم يمكن الخصم من تعيين محكمة أو لم يُعلن بالبدء بإجراءات التحكيم، أو كان الإعلان غير صحيح.
وكذلك يثبت الإخلال بحقوق الدفاع إذا ثبت وجود غش في الإعلان الصادر ضده حكم المحكمين بتعيين المحكم، أو بأي إجراء من إجراءات التحكيم.
ويثبت أيضًا الإخلال بحقوق الدفاع إذا لم يُعلن بما يدعيه خصمه أثناء المرافعات ولم يطلع على ما قدَّمه الخصم من وثائق ومستندات، ولم يتمكن من الحضور لإبداء دفوعه عندها يكون ناكرًا لحق الدفاع، ولكن يشترط هنا أن يكون الظرف قهري، كأن يقع له حادث، أو تصيبه حالة من حالات فقدان الذاكرة، أو خلاف ذلك، وبالتالي لا يصلح عذرًا مجرد نسيان تاريخ الجلسة، أو وجود حفل، أو فرح، وبالتالي فاحترام حقوق الدفاع، هي مطلب أساسي في مجال إجراءات التحكيم، حيث من الواجب على هيئة التحكيم السماح لأطراف النزاع بالتعبير عن أوجهه دفاعهم بكامل حرياتهم.
الحالة الرابعة: الفصل في أمر لم يرد في اتفاق التحكيم أو مجاوزة حكم المحكم حدود اتفاق التحكيم:
لقد نصَّت اتفاقية نيويورك في المادة الخامسة الفقرة (1/ج) بأن للمدعي عليه الاعتراض على الاعتراف وتنفيذ حكم التحكيم إذا أثبت أن الحكم فصل في نزاع غير وارد في مشارطة التحكيم، أو في عقد التحكيم، أو تجاوز حدودهما فيما قضي به.
تتحدث هذه الحالة عن سلطات واختصاصات المحكم بوصفه قاضيًا للنزاع، وهي سلطات يستمدها من اتفاق أطراف النزاع، ولذا يجب على المحكم أن يلتزم بالفصل في أوجه النزاع الواردة في اتفاق التحكيم فقط، ولا يفصل في أي نزاعات أخرى لم يرد ذكرها في اتفاق التحكيم، فإذا فصل المحكم في مسألة لم ترد في اتفاق التحكيم، أي لم يتفق طرفا النزاع على حلها بطريق التحكيم، ولم يمنحا المحكم سلطة الفصل فيها، فإن على المحكمة المطلوب لديها التنفيذ أن ترفض الاعتراف بالحكم وتنفيذه إذا أثبت المحكوم ضده هذه الحالة بوصفه حكمًا باطلًا.
ويلاحظ أن الاتفاقية سمحت بإصدار أمر التنفيذ الجزئي لجزء فقط من حكم التحكيم الصادر في حدود اتفاق التحكيم، إذا أمكن فصل هذا الجزء عن باقي أجزاء الحكم غير المتفق على حلها بطريق التحكيم، وذلك كما جاء في الفقرة (ج) من المادة الخامسة من الاتفاقية على أنه: “ومع ذلك يجوز الاعتراف وتنفيذ جزء من الحكم الخاضع أصلًا للتسوية بطريق التحكيم إذا أمكن فصله عن باقي أجزاء الحكم غير المتفق على حلها بهذا الطريق”.
الحالة الخامسة: وقوع مخالفة في تشكيل هيئة التحكيم أو في إجراءات التحكيم:
وفقًا لنص المادة الخامسة من اتفاقية نيويورك، الفقرة (د/1)، فإنه يتعين للفصل في صحة تشكيل هيئة التحكيم، أو الإجراءات التحكيمية، ضرورة الرجوع أولًا لاتفاق الأطراف، وإذا لم يتناول هذا الاتفاق تلك المسائل بالتنظيم وجب الرجوع لقانون الدولة التي تم فيها التحكيم، وكذلك إذا حدثت أيضًا مخالفة في إجراءات التحكيم طبقًا لما اتفقت عليه أطراف التحكيم، أو طبقًا لقانون البلد الذي تم فيه التحكيم في حالة عدم الاتفاق، يكون اتفاق التحكيم باطلًا، ويجوز للمحكوم ضده أن يدفع بذلك أمام القاضي المختص بإصدار أمر التنفيذ، ولكن يجب عليه أن يثبت ذلك لكي يتمكن القاضي المختص من إصدار قراره برفض طلب التنفيذ.
فقد أكدت الاتفاقية على سمو اتفاق الأطراف على قانون الدولة التي تم فيها التحكيم، بحيث لا يلجأ إلى هذا الأخير لتقدير صحة الإجراءات، أو تشكيل هيئة التحكيم، إلا في حالة عدم وجود اتفاق بين الأطراف ينظم هذه المسائل، بمعنى أن قانون الدولة التي تم فيها التحكيم يلعب دورًا احتياطيًا وذلك في حالة سكوت الأطراف، أو عدم اتفاقهم على القواعد التي تحكم تشكيل هيئة التحكيم، أو إجراءات التحكيم، كما يلعب دورًا تكميليًا وذلك في حالة اتفاق الأطراف على بعض المسائل التي تتعلق بتشكيل الهيئة، أو إجراءات التحكيم دون بعضها الآخر، حيث يقوم قانون دولة التحكيم بسد ذلك النقص.
الحالة السادسة: أن حكم التحكيم لم يصبح ملزمًا للخصوم أو تم إلغاؤه أو تم إيقاف تنفيذه:
نصت المادة (5/1/ ﻫ) من اتفاقية نيويورك على أن: “الحكم لم يصبح ملزمًا للخصوم أو ألغته أو أوقفته السلطة المختصة في البلد التي فيها أو التي بموجب قانونها صدر الحكم”. وقد تضمنت هذه الحالة ثلاثة حالات يجوز فيها للصادر ضده حكم التحكيم أن يطلب من المحكمة المختصة بإصدار أمر التنفيذ رفض إصدار الأمر، الأولى: إن حكم التحكيم لم يصبح ملزمًا، والثانية: إن حكم التحكيم قد صدر حكم بإبطاله، والثالثة: إن حكم التحكيم صدر حكم أو قرار بإيقاف تنفيذه”، وسوف نتعرض لكل حالة على حده:
1ـ إذا كان حكم التحكيم لم يصبح ملزمًا:
فقد أجازت الاتفاقية للمحكمة المختصة بإصدار أمر تنفيذ حكم التحكيم رفض إصدار الأمر، إذا أثبت الخصم المراد تنفيذ الحكم في مواجهته أن الحكم لم يصبح ملزمًا وفقًا لقانون البلد الذي صدر فيه الحكم أو وفقًا لقانون البلد الذي صدر بموجب قانونها. ويجب الإشارة إلى أن الاتفاقية استخدمت لفظ ملزمًا، وهو لفظ يثير اللبس؛ لأن المتفق عليه لدى أغلب الفقه وفي أغلب التشريعات أن حكم التحكيم يصدر حائزًا حجية الأمر المقضي به، ويكون ملزمًا وقابلًا للتنفيذ الاختياري من لحظة صدوره، وإن كان غير قابلًا للتنفيذ بالقوة الجبرية.
إلا أن الأعمال التحضيرية للاتفاقية أفادت بأن المقصود بصيرورة الحكم “ملزمًا” هو أن يكون حكم التحكيم نهائيًا، والعبرة في كون الحكم نهائي من عدمه بالرجوع إلى قانون الدولة التي صدر الحكم فيها، أو وفقًا للنظام القانوني الذي خضع له التحكيم.
2ـ إذا كان حكم التحكيم قد تم إبطاله:
تشير المادة (5/1/ ﻫ) من اتفاقية نيويورك إلى أنه: يمكن رفض الاعتراف وتنفيذ حكم التحكيم إذا ما أثبت المدعى عليه أن الحكم قد حكم ببطلانه من قبل السلطة المختصة بالدولة التي صدر فيها الحكم، أو في الدولة التي صدر الحكم وفقًا لقانونها؛ لأن الحكم ببطلان حكم التحكيم يمس حجيته ويفقده قوته، ذلك أن الحكم إذا كان يتمتع بالحجية فور صدوره ـ رغم قابليته للطعن ـ إلا أنها حجية موقوفة ومعلقة على نتيجة الطعن، فإذا انتهى الطعن إلى بطلان الحكم زالت تلك الحجية وبالتالي لا يصبح الحكم جديرًا بالتنفيذ في أي مكان لأنه لم يعد قائمًا في بلده.
3ـ إذا صدر حكم أو قرار بوقف تنفيذ حكم التحكيم:
أجازت المادة (5/1/ ﻫ) من اتفاقية نيويورك للصادر ضده حكم التحكيم أن يطلب رفض إصدار أمر التنفيذ إذا أثبت صدور حكم قضائي أو قرار قضائي بوقف تنفيذ حكم التحكيم في الدولة التي صدر فيها أو بموجب قانونها حكم التحكيم.
ولكن يلاحظ أن تقديم طلب وقف تنفيذ حكم التحكيم لا يعطي الحق للصادر ضده حكم التحكيم في طلب رفض تنفيذ حكم التحكيم؛ لأن النص يتحدث عن صدور قرار بوقف التنفيذ.
ثانيًا: تنفيذ حكم التحـــــــكيم الصادر وفقًا لاتفــــــاقية واشنطن لتسوية منازعات الاستثمار
تمت الموافقة على اتفاقية واشنطن لإنشاء المركز الدولي لفض المنازعات الناشئة عن الاستثمار في 18 مارس لعام 1965م، وهي اتفاقية عامة يمكن لكافة الدول الانضمام إليها، وقد انضمت إليها الجمهورية اليمنية بموجب القرار الجمهوري رقم 49 لسنة 1999م.
وقد لاقت هذه الاتفاقية إقبالًا من قبل الدول المختلفة لاسيما الدول النامية، حيث تعمل عند تصديقها على الاتفاقية على جذب رؤوس الأموال الأجنبية لاستثمارها في تلك الدول، والسبب الآخر هو الدور الذي يلعبه البنك الدولي في تمويل المشاريع في الدول النامية، حيث يمارس البنك ضغطًا على الدول التي يمنحها قروضًا لكي تقبل بوضع شرط تحكيم في عقودها وفقًا لاتفاقية واشنطن، أما بالنسبة للدول الصناعية، فإن فائدة الانضمام إلى الاتفاقية هي لحماية استثماراتها في البلدان النامية، وإخراج المنازعات بشأنها من سلطان القضاء الداخلي لهذه الدول.
شروط تنفيذ أحكام التحكيم الصادرة من المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار
نصَّت المادة (54/3،2) من اتفاقية واشنطن لتسوية منازعات الاستثمار على: “…2ـ على الطرف الذي يرغب في الحصول على الاعتراف بالحكم وتنفيذه على أرض الدولة المتعاقدة أن يقدم صورة طبق الأصل معتمدة من السكرتير العام إلى المحكمة الوطنية المختصة، أو إلى أي سلطة أخرى تحددها الدولة المذكورة لهذا الغرض، وعلى كل دولة متعاقدة أن تخطر السكرتير العام بالمحكمة المختصة أو الجهات التي تحددها لهذا الغرض، وبكل التغييرات التي تطرأ في هذا الشأن، 3ـ ويحكم تنفيذ الحكم القوانين السائدة الخاصة بتنفيذ الأحكام القضائية في الدولة التي ينفذ فيها الحكم”.
ونصَّت المادة (53/1) من اتفاقية واشنطن لتسوية منازعات الاستثمار: “1ـ يكون الحكم ملزمًا للطرفين، ولا يمكن استئنافه بأي طريقة إلا في الحالات الواردة في هذه الاتفاقية، ولكل طرف ملزم بتنفيذ الحكم طبقًا لشروطه إلا في حالة تأجيل التنفيذ طبقًا لأحكام هذه الاتفاقية”. والمادة (52/1) من الاتفاقية بينت الحالات الموجبة لإلغاء الحكم، وهي:
ألا يكون هناك خطأ في تشكيل هيئة التحكيم.
ألا تكون هيئة التحكيم قد تجاوزت اختصاصها.
ألا يكون أي من أعضاء هيئة التحكيم غير صالحٍ فيما حكم فيه.
ألا يكون هناك إهمال خطير لإجراء أساسي من إجراءات المحكمة.
ألا تكون المحكمة قد أغفلت ذكر الأسباب التي بني عليها الحكم.
ويتضح من هذا النص أن الاتفاقية عدَّت حكم التحكيم الصادر عن المركز حكمًا قطعيًا ونهائيًا واجب النفاذ وكأنه صادر من إحدى الدول الأطراف في الاتفاقية التي سيتم تنفيذ الحكم على أراضيها وفقًا لنص المادة (54/1) الذي ينص على: “1ـ تعترف كل دولة متعاقدة بالحكم الذي صدر بناءً على أحكام هذه الاتفاقية، وتضمن تنفيذ الالتزامات المالية التي يفرضها الحكم كما لو كان حكمًا نهائيًا صادرًا من محكمة محلية، وعلى الدولة المتعاقدة التي تتبع النظام الفيدرالي ضمان تنفيذ الحكم عن طريق محاكمها الفيدرالية، وأن تلزم هذه المحاكم بمعاملة هذا الحكم بوصفه حكمًا نهائيًا صادرًا من محاكم أحد الدول الفيدرالية”.
وبالتالي فإن الأمر الذي يميَّز هذه الاتفاقية عن غيرها أن حكم التحكيم الذي يصدر وفق أحكامها يكون نهائيًا وواجب التنفيذ من الدول المنضمة إلى الاتفاقية، كما لو كان الأمر يتعلق بتنفيذ حكم صادر من محاكم تلك الدول.
ويتم تقديم طلب وضع الصيغة التنفيذية على حكم التحكيم إلى المحكمة المختصة في بلد التنفيذ، مرفقًا به صورة رسمية من حكم التحكيم معتمدة من السكرتير العام للمركز، ولا يلتزم هنا مقدم الطلب بتقديم أية أوراق أو أية مستندات أخرى كصورة اتفاق تحكيم مثلًا، وذلك لأن المحكمة المختصة بوضع الصيغة التنفيذية لن تجري أية رقابة موضوعية أو حتى شكلية على حكم التحكيم، وأن المحكمة فقط تتأكد من صحة صدور حكم تحكيم من المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار. وبعد وضع الصيغة التنفيذية على حكم التحكيم، يصبح حكم التحكيم سندًا تنفيذيًا، يجوز تنفيذه جبرًا، شأنه شأن أي سند تنفيذي (حكم القضاء) ينفذ في اليمن، وبالإجراءات نفسها.
عضو شعبة حقوق الإنسان والتعاون القضائي الدولي بمكتب النائب العام
اكتشاف المزيد من الصحيفة القضائية |
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
لا تعليق